منذ أكثر من مائة عام كان الحديث عن موضوع تحديد النسل ، أو منعه أمراً محرماً ومكروهاً ، ففي روايات العهد الفيكتوري قد نقرأ عن أطفال ولدوا سفاحاً ، غير أننا لا نعثر على مسائل تتعلق بمنع الحمل ، كما لا نعثر على شيء حول منع الحمل غير المرغوب فيه ، نظراً لشعور الناس بمشكلة تزايد السكان والانفجار السكاني .
المرأة وقضية تنظيم الأسرة :
بيد أن المرأة كانت أول من خاض غمار البحث في هذا الموضوع ، ففي عام 1877م ، حوكمت آني بيسان ، وبرئت لأنها كتبت حول خطط لتنظيم الأسرة ، وفي عام 1914م ، نشرت مارجريت سانجر في مجلتها ، ثورة المرأة ، مقالة استخدمت فيها لأول مرة عبارة ، تحديد النسل ، غير أن قضية ماري ستوبس كانت أشهر القضايا في هذا المجال .
ماري تشارلوت :
ولدت ماري تشارلوت كارمايكل ستوبس ، عام 1880م ، وكانت امرأة غير عادية ، تتمتع بالجرأة والحيوية والذكاء ، كما أنها كانت تتمتع بإرادة قوية وعزم أكيد دون مراعاة للحساسيات ، كانت تدرس علم النبات في جامعة مانشستر ، وعندما انهارت حياتها الزوجية عام 1916م ، انصرفت للتفكير في مشكلات الزواج ، والكتابة حول ذلك الموضوع المثير للجدل ، فنشرت كتابها الذي أثار الرأي العام ، وكان بعنوان Married Love .
الكتاب :
كان غرض الكتاب بحث مسألة السعادة الزوجية ، ولم يكن موجهاً لمعالجة القضايا الجنسية أو وسائل تحديد النسل ، بيد أن الكاتبة تطرقت لهذه الموضوعات بكل ثقة دون خوف أو وجل ، وقالت : إن الجنس ليس أمراً يخص الرجل ومتعته فحسب ، وإنما هو يخص المرأة كذلك ، كما أن المرأة لا تجد سعادة في الجنس لأنها تخشى الحمل .
رد الفعل :
أثار هذا الكلام ضجة وصلت إلى حد النقمة والغضب العام ، ورفضت التايمز أن تعلن عن الكتاب ، غير أن الكاتبة باعت من كتابها خلال أسبوعين فقط أكثر من ألفي نسخة ، ثم أعيدت طباعة الكتاب 26 مرة ، وقد استخدمت ماري ستوبس ، عائدات بيع الكتاب لفتح عيادة ، في شمال مدينة لندن في مارس عام 1921م ، مهمة العاملات فيها تقديم النصح مجاناً للأمهات حول وسيلة منع الحمل .
العيادة :
أقبلت النساء على مراجعة العيادة من كل حدب وصوب ، وخاصة من الأحياء الفقيرة في لندن ، غير أن كثيرين من رجال الدين والأطباء شنوا حملة شعواء على ماري ستوبس وعيادتها .
الاتهامات :
وكان على رأس هؤلاء الناس أستاذ جامعة إدنبرة الكاثوليكي الدكتور هاليداي جبسون سوذرلاند ، الذي كتب كتاباً خاصاً حول موضوع تحديد النسل ، استشهد الدكتور سوذرلاند في كتابة بقول البروفسور ماكلوري الذي وصف وسيلة منع الحمل المستخدمة آنذاك بأنها خطرة .
كما أنه اتهم ماري ستوبس بأنها تقوم في عيادتها بإجراء التجارب على نساء الأحياء الفقيرة ، وكتب مقاطع مليئة بالاستفزاز والتحريض مثل : ومن العجيب أن وزارة الداخلية تقف مكتوفة الأيدي ، إذاء الحملة الشنعاء التي تقوم بها ماري ستوبس التي تؤمن بالفلسفة الألمانية .
قضية تشهير :
غير أن ستوبس قبلت التحدي ، ورفعت ضد سوذرلاند قضية تشهير ، وخلال المحاكمة التي استمرت 9 أيام ، وبدأت في 21 فبراير عام 1921م ، تم تبادل الاتهامات بين كلا الطرفان ، والاستماع إلى شهادة الأطباء المختصين .
القاضي :
وكان القاضي خلال مناقشاته للشهود في تعليقاته ، بادي التحيز ضد ستوبس وكتابها ، فعندما قال الشاهد الطبيب ميريديث يونغ بأن النساء يستفدن من معرفة وسائل منع الحمل ، أجابه القاضي بغضب : ما هي الفائدة التي يمكن للفتيات الصغيرات أن يجنينها من التعرف كيفية تلك الوسائل.
فأجابه الطبيب : إن لم يعرفنها من الكتاب بطريقة نظيفة ، سوف يتعلمنها بطريقة قذرة ..عاد القاضي يسأله : ولكن لماذا ؟ ثم أوضح أن ملايين الناس يحيون حياة طبيعية بدون حاجة إلى التعرف على وسائل منع الحمل .
الدفاع :
غير أن الدفاع قال : بأن هذه الأمور لا تهم الرجل ، ولكنها تهم المرأة ، والأمهات ووازنت ستوبس نفسها بين المنع العلمي الحكيم ، وجائم الاجهاض الفظيعة ، التي تمارس في الأحياء الفقيرة وأضافت : هل نحن نجري تجارب على الفقراء ؟ أن وسيلة منع الحمل التي نوصي بها مستخدمة على نطاق واسع منذ أكثر من 40 عاماً ، فأين التجارب والتجريب ؟؟
الحكم :
ورغم أن المحلفين كانوا جميعهم من الرجال ، فقد أقروا بصحة التشهير وحكموا للمدعية بتعويض قدره 100 جنيه بدل الضرر الذي ألحقه سوذرلاند بها .
الاستئناف :
لكن الدكتور سوذرلاند استأنف الحكم ورفع الأمر إلى مجلس اللوردات ، ونال حكماً بالبراءة من تهمة التشهير وأعيد المبلغ الذي سبق دفعه إليه .
النهاية :
وهكذا خسرت ماري ستوبس الدعوى من الناحية القانونية ، ولكنها ربحت الجائزة التي لا تقدر بمال عندما أصبح الحديث عن موضوع منع الحمل أمراً عادياً ، ولم يعد محرماً أو مكروهاً .