تسلل الغرب إلى دول المشرق العربي من خلال عددًا من الشخصيات التي صنعت فارقًا على مدار التاريخ ، ومن بينهم عالمة الآثار البريطانية جيرترود بيل ، التي أتت إلى العراق وهي في عمر 45 عامًا ، في عام 1914م .
وكانت مهمتها مثل مهام أفراد أجهزة الاستخبارات ، حيث أتقنت اللغة العربية ودرست الآثار بمنطقة الشرق الأوسط مما مكّنها من الاختلاط سريعًا بالعرب ، وشاركت توماس إدوارد لورانس في تأسيس المكتب العربي بمصر ، والذي كان بمثابة جهازًا استخباراتيًا تابعًا لبريطانيا في هذا الوقت .
درست بيل التاريخ في جامعة أكسفورد ، وكانت انجلترا في تلك الفترة تخوض حربًا مع الدولة العثمانية ، حيث وقفت ألمانيا في صف العثمانيين قبل أن تنهزم بريطانيا في معركة جاليبولي .
وكان هذا هو الوقت الذي برز فيه العرب كورقة رابحة لبريطانيا المنهزمة ، وهنا كانت الحاجة للاستعانة بالباحثين غريبي الأطوار لديهم ، ممن أبدوا تعمقًا في الشأن العربي ، وتمت الاستعانة ببيل ، حيث صادف القدر أن يُقتل حبيبها في المعركة فحملت بداخلها مشاعر مضطربة ، لعلها كانت السبب في تفكيرها فيما بعد .
انطلقت بيل نحو المشرق وهبطت قدماها على أرض مصر ، وكانت مهمتها تتلخص في تجميع المعلومات الاستخباراتية الدقيقة ، بشأن عشائر شمال جزيرة العرب ، حيث رغبت بريطانيا في توطيد العلاقات معهم ، ونجحت بيل بالفعل في جعل مكتبها الاستخباراتي في القاهرة من أقوى المكاتب التي أسستها بريطانيا ، في إدارة سياساتها الاستعمارية .
وفي عام 1916م ، انطلقت بيل في رحلة جديدة إلى الهند ، حيث شاركت في وضع معجم خاص بالبلدان العربية تحت إشراف الحكومة الهندية ، وبمجرد أن عادت بيل من رحلتها تلك ، لم تلبث أن انطلقت في مهمة جديدة نحو البصرة بالعراق ، والتي كانت قد وقعت في هذا الوقت تحت سيطرة حملة استطلاعية بريطانية .
وكان من المفترض أن تكون مهمة بيل آنذاك سريعة ، حيث طلبت منها الإدارة البريطانية أن تطور المعلومات بشأن عشائر العرب ، ولكن المهمة طالت عندما تم ترقية بيل للعمل رسميًا في هيئة الاستخبارات البريطانية ، وانتقلت بعدها للعمل كمساعد ضمن طاقم سكرتارية رئيس حكام بريطانيا ، ويدعى السير بيرسي كوكس .
وبمجرد أن سقطت بغداد في يد البريطانيين في عام 1917م ، انتقلت بيل برفقة السير كوكس إلى بغداد ، وبرعت في مهمتها بشأن التواصل بين الجانبين البريطاني والعربي ، بحكم دراستها وإتقانها للغة العربية ، حثي قامت بيل بتصنيف شيوخ العراق ونبلائها ، وفقًا لشخصياتهم وانتماءاتهم السياسية وميولهم .
رغب الجانب البريطاني في ضم العراق إلى الهند تحت سيطرتهم ، ولكنهم فشلوا في ذلك فبدأ السير في الاتفاق مع فرنسا بشأن تقسيم المنطقة العربية ، وكانت سوريا في هذا الوقت تحظى بملكيتها الخاصة ، ولكن خشى البريطانيون أن يمنحوا للعراق جزء من السلطة .
كانت بيل من المؤيدين لشراكة العراقيين في الحكم مع بريطانيا ، ولكن وعلى الرغم من الفوضى المحتملة ، فإنه مع التعنت البريطاني بشأن المطالب العراقية ، اندلعت ثورة العشرين العراقية في مواجهة بريطانيا ، والتي رضخت بعدها بريطانيا على التخلي عن الحكم المباشر ، واللجوء إلى سياسة الانتداب .
في نفس الوقت تخلى تشرشل عن منصبه كوزير للحرب ، متوليًا مسئولية وزارة المستعمرات ، وقام بإعداد مؤتمر لإعادة النظر في سياسة بريطانيا في منطقة الشرق الأوسط ، والاتفاق على شكل دولة العراق الجديدة ، حيث كانت قوانين الانتخاب قد تم إقرارها وعُين رئيس الوزراء ، وتم الاتفاق على الحاكم الجديد .
وكانت بيل هي المراة الوحيدة التي شاركت بالمؤتمر ، وتم تعيين فيصل الهاشمي ملكًا للعراق ، وكان فيصل ملكًا على سوريا في عام 1920م ، قبل أن تحتل فرنسا مدينة دمشق إبان انتهاء حقبة الملكية السورية ، وهنا غادر فيصل منطلقًا نحو لندن .
وفي نفس العام تم تنصيب الملك فيصل ملكًا للعراق من جانب الانجليز ، على الرغم من عدم انتمائه واتصاله بجذور عراقية ، ولكنه كان مقربًا من بيل التي ظلت تعمل منسقًا للمندوب السامي البريطاني ، والبلاط الملكي العراقي ، وتم تكليف بيل بعمل تقارير دورية بشأن الأحداث الجارية في العراق ، والأحداث السياسية والاقتصادية والاجتماعية ، وكل ما له علاقة بشأن العراق .
تم ترسيم حدود العراق تعسفيًا وبعيدًا عن كافة الأعراف المتبعة في ترسيم حدود أية دولة ، فظهرت الحدود الجنوبية فضفاضة وغير محددة ، وابتلع جزء ضخم من العراق لصالح سوريا بأمر من فرنسا ، وأهملت الشيعة في جنوب العراق .
ظلت بيل بالعراق لخمسة أعوان عقب تولي فيصل الهاشمي للعراق ، وتوفت في عام 1926م عقب تناولها جرعة إضافية من الدواء ، وتم تلقيبها بالخاتون وأطلق عليها الملك فيصل شقيقته ، بينما وصفها وزير الخارجية ماركس سايكس بأنها مغرورة وثرثارة وسطحية .