في كولومبيا تلك الدولة الفقيرة بشمال أمريكا اللاتينية ، نفث بركان نيفادوا الذي كان خامدًا لمئات السنين نيرانه بغضب على جبال الثلوج ، فانصهرت سفوحه متحولة لسيول جارفة انحدرت من الأعلى بسرعة 6 أمتار في الثانية الواحدة ، لتطيح منطقة أرميرو ، والبلدات الصغيرة المتناثرة حولها أسفل الجبل المنصهر.
سيول نيفادو :
انطلقت السيول لتحمل في طريقها المنازل والسيارات والبشر ، وتطيح بالجميع بلا رحمة ولا هوادة ، بينما هم نيام لا يستطيعون الفرار من موت محدق ، وفي الصباح بعد ان انحسر الماء قليلا ، كانت قد ترك وراءها ما يقرب من ثلاثين ألف قتيلًا ، ودمار هائل للقرى والمنشات .
وللأسف لم يساعد الوضع الجغرافي للمنطقة الذي يقطن بها السكان على وصول المساعدات وفرق الإغاثة لهم ، فكانوا يسكنون في منطقة نائية تحيطها الجبال ، بالإضافة إلى الحرب التي كانت دائرة حينها بين الثوار اليساريين والحكومة الكولومبية .
ولهذا السبب لم يسمع العالم بانفجار البركان ، والمأساة التي وقعت للسكان المحليين إلا بعد أيام من وقوع الكارثة ، ولم تكن المساعدات الإنسانية ولا التغطية الإعلامية للحدث تتناسب مع حجم الدمار الموجود ، وعدد الضحايا الكبير .
أوميرا سانشيز شعرة تعلقت بالحياة :
لم يكن الحظ حليفا لأوميرا سانشيز ، تلك الطفلة الجميلة ذو الثلاثة عشر عامًا ، فكانت تقطن مع أسرتها بضواحي أوميرو ، وفي تلك الليلة لم تكن أمها بالبلدة ، وكانت الفتاة مع أبيها ، وأخيها ، وخالتها في المنزل وقت اجتياح الماء لبلدتهم الصغيرة .
وسرعان ما تهدم المنزل كغيره من المنازل الكثيرة المجاورة ، ودفنت أهل البلدة تحت الأنقاض ، ومنهم من مات على الفور ، ولكن البعض ظلوا أحياء لساعات طويلة عالقين تحت خرائب منازلهم ، القليل فقط تم انتشالهم ، وإنقاذهم ، وكانت أوميرا واحدة من العالقين ، غطتها الأنقاض حتى خصرها فأصبح خروجها مستحيلا ، دون وصول فرق الإغاثة للمساعدة .
كما غطتها المياه والأوحال حتى رقبتها ، فبدت لمن يشاهدها كأنها حورية تسبح وسط بركة من الأوحال ، وظلت الفتاة البائسة على هذه الحال لمدة ثلاث أيام ، لا أحد يملك مساعدتها من البشر المحيطين ، فكل ما كانوا يستطيعون فعله لها تقديم الماء ، حتى لا تموت عطشًا .
تأخر وسائل الإنقاذ يزيد الأمر سوءًا :
كان من الممكن أن تحيا أوميرا إذا توفرت وسائل الإنقاذ ، والطب حينها ، ولكن وعورة المنطقة وانشغال الحكومة بالصراعات الداخلية ، حينها حال دون تمسك الصغيرة بالحياة ، وقد حاول بعض عمال الإنقاذ المحليين انتشالهم إلا أن محاولاتهم باءت بالفشل لسببين ، وهو إنهم كلما حاولوا سحبها ، ارتفع منسوب المياه وأغرقها.
والسبب الأخر أن قدميها كانت عالقة تحت ركيزة خرسانية ضخمة ، ولم يكن هناك حل سوى قطع قدمها ، ولكن الأطباء لم ينصحوا بذلك ، لأن الفتاة كانت قد خارت قواها ، ولم تكن ستبقى بعدها على قيد الحياة .
وقد طالب عمال الإنقاذ بمضخة لسحب الماء من حول الفتاة ، ولكن تلك المضخة لم تصل أبدا ، وبالنهاية أدرك الجميع أن إنقاذها مستحيل ، فاستسلموا للوضع الكائن ، وأخذ ينظرون إليها بأسى وهي تموت أمام أعينهم .
شجاعة فتاة على وشك الموت :
أما الفتاة نفسها فكانت شجاعة ، برغم ألامها المميتة كانت تتبادل الأحاديث مع الناس ، وعمال الإنقاذ ، حتى أنها غنت لإحدى عاملات الإنقاذ الألمانية في مرة من المرات ، وكانت تطلب الحلوى والمياه الغازية من أن لأخر ، ولكنها كان تشعر أحيانا بالخوف ، فتبدأ بالبكاء والصلاة ، والجميع من حولها يذرفون الدموع ، ويصلون لها.
ولم ينجى من عائلة أوميرا سوى شقيقها الأصغر الذي خرج من تحت الأنقاض بمعجزة ، أما أبوها ، وخالتها فقد استقرت جثثهم تحت الأنقاض ، وحينما وصل المراسل الصحفي فرانك فورنييه إلى مدينة أوميرو بعد رحلته الطويلة ، كان الوضع سيئا للغاية ، فالقليل من عمال الإنقاذ موجودون مع الكثير من الجثث ، والأشخاص العالقة ، وإنقاذ هذا الكم الهائل لم يكن بالأمر السهل مع ضعف الإمكانيات ، وتأخر الإمدادات.
أوميرا أيقونة الكوارث ؛ صورة تهز العالم :
وبينما كان فرانك يتجول بين الأحياء المهدمة ، والخراب المنتشر في الأرجاء يبحث عن صورة تجسد حجم المأساة ، ليشعر العالم بمدى فجاعة الموقف ، أرشده بعض الناس إلى البركة التي تقبع فيها أوميرا من ثلاثة أيام دون حراك ، ذهب فرانك ووجد بغيته في عين الفتاة الحمراء ذات الوجه المتورم.
واستطاع أن يلتقط لها بعض الصور والفيديوهات التي هزت العالم ، قبل موتها بثلاث ساعات فقط ، وقد ظل بجوارها حتى بدأت تهلوس ، وطلبت منه أن يأخذها للمدرسة حتى لا تتأخر ، وبعدها بدأت تفقد وعيها بالتدريج ، وأغمضت عينيها للأبد.
انتشرت صورة أوميرا فتاة البركة العالقة بعدها بأيام ، حينما نشرها فرانك في الجريدة التي تعمل بها ، وسرعان ما اتخذتها وسائل الإعلام شعارا لضحايا الكوارث والنكبات ، وأخذت صيحات الرأي العام العالمي تعلو : لماذا لم يتم إنقاذ الفتاة ؟
لقد ظلت حية ثلاثة أيام ، لماذا لم تنقذ ؟ وأصبحت صورة أوميرا أيقونة لعمليات الإغاثة الدولية من وقتها ، فقد أصبحت سببًا في وعي العالم بضرورة التكاتف في وجه الملمات والكوارث خاصة في البلدان الفقيرة.