أثارت حياة المنصور قدرًا غير قليل من الجدل والنقاش ، وقد حفظت المؤرخات الأندلسية بصورة خاصة الكثير من وجهات النظر المتناقضة في تقويم أعمال الحاجب المنصور ومنجزاته ، فهو القائد المسلم الذي أرعب أوروبا ، وبرز فيمن أبرزتهم الحروب الصليبية في المشرق الإسلامي أمثال صلاح الدين الأيوبي ، والمظفر قطز والظاهر بيبرس وأحمد بن قلاوون وغيرهم ممن أخلصوا لقضية الجهاد في سبيل الله .

لقد برز الحاجب المنصور في فترة صعبة من حياة الأندلس الإسلامية ، كانت فيها ممالك النصارى في الشمال قد اكتسبت كل ظواهر الدول وقوتها ، وأخذت هذه الممالك تعمل على توجيه جهدها لحرب المسلمين قبل أن تعلن الحروب الصليبية بصفة رسمية ، وقد تزامن هذا مع وفاة الحكم المستنصر المباغتة وعدم وجود رجل قوي من البيت الأموي يتولى الاضطلاع بإدارة الدولة والحرب ، ليترك بذلك فراغًا خطيرًا في الأندلس .

ولكن الحاجب المنصور ذلك القائد المغوار تصدى لحمل المسئولية ، ورفع راية الجهاد في سبيل الله وأعاد التنظيم الشامل للدولة ، وحشد كل القوى والإمكانات لرفع راية الإسلام والمسلمين ، وقاد الحرب طوال حياته فأحرز من الانتصارات ما لم يحصل عليه رجل من قبل ومن بعد ، فترك بذلك مجدًا خالدًا ظل متألقًا على مر الأيام ، ومفخرة لجند الإسلام .

حياته في الصغر :
هو محمد بن عبدالله بن عامر بن أبي عامر بن الوليد بن يزيد بن عبدالملك المعافري ، وكان جده عبدالملك فيمن رافق طارق بن زياد في فتحه للأندلس ، وقد كبر الصبي في تركس تلك القرية الراقدة في سهول الأندلس الخضراء ، والتي كانت غير بعيدة عن قرطبة فتطلع ببصره إلى عاصمة الدنيا قرطبة مركز الحرب والسياسة ومنهل العلم والمعرفة ، فحزم متاعه وتوجه إلى عاصمة الأمويين وهو لا يعلم ما يخبئه له القدر .

دراسته ونبوغه :
كان الحاجب المنصور يريد أن يكون ذا شأنًا وقيمة فأقبل على العلم منذ صغره وأخذ ينهل من مناهل العلم والأدب فنبغ فيهما ، وعب من موارد شعر أجداده فأصبح شاعرًا بليغًا ولم تكن الجرأة تعوزه فهو عربي أصيل توافرت لديه العوامل الأساسية المكونة لشخصية الفارس العربي المسلم ، ولكن كان ما يعوزه فقط هو نقط البداية التي ينطلق منها إلى هدفه .

علاقته بأم المؤيد :
ولم يطل الشاب الصغير التفكير فاقتعد دكانًا عند باب القصر يكتب فيه لمن أراد رفع كتاب من الخدم والمرافعين للسلطان ، وقد كانت الانفراجة حينما طلبت السيدة صبح أم هشام المؤيد من يكتب عنها ، فعرفه به بعض فتيان القصر الذين كانوا يأنسون بالجلوس إليه ، وبالفعل كتب عنها فاستحسنته وبلغت الحكم بأمره فلانت له الأمور .

وصبح البشكنسية هي زوجة الحكم المستنصر الأثيرة وسيدة القصر الأولى التي كان لها السلطة والنفوذ في المجتمع الأندلسي ، وقد كان اتصال الحاجب بها هو الطريق إلى مبتغاة ، فعمل على خدمتها وخدمة من بالقصر حتى يثنون عليه أمامها فيترسخ موقعه ، كما أغدق عليها عظيم الهدايا ، حيث يذكر أنه قد صنع قصرًا من فضة لصبح أم هشام فجلب حبها بذلك وزكته عند سيدها الحكم .

وكان له مجلس معروف يجتمع به أهل العلم مرة في الأسبوع ، كما تولى العديد من المناصب كإدارة أملاك السيدة صبح والنظر في مزارعها وبساتينها ، كما ولاه الحكم قضاء بعض المواضع فظهرت منه نجابة في كل موضع ترقى إليه حتى ولاه الحكم الزكاة والمواريث باشبيلية وارتفعت مكانته في عموم الأندلس نظرًا لنجابته وحسن تدبيره .

وفاة الحكم المستنصر :
كانت حياة الحكم المستنصر حياة جهاد دائم وصراع مستمر في الشمال مع النصارى ، وفي الجنوب مع الفاطميين والأفارقة وفي الداخل مع مركز القوى المضادة ، علاوة على تلك الغزوات المباغتة التي كانت تقوم بها شعوب البحر (النورمان) ، وبالطبع لم يكن باستطاعة دولة قرطبة أن تعمد لكل تلك التحديات إن لم يكن لديها جيش نظامي قوي .

وقد استطاع الحاجب المنصور في ظل تلك الدولة القوية أن يصل لمنصب الوزارة ، ولكن كان الحاجب جعفر بن عثمان المصحفي منافس قوي له حيث كانت ثقة الخليفة به مطلقة ولها مركز مرموق في البلاط ، كما كان أبو تمام غالب بن عبدالرحمن قائد الجيش المظفر في كل معاركه بالخصم الهين ، إذ أن الحاجب المنصور لم يكن قد تولى أي قوة عسكرية أو حتى خاض معركة واحدة ، وبالطبع كان من العسير عليه السيطرة على الجيش .

فانتظر المنصور اللحظة المواتية التي يحدث فيها اضطراب بين مراكز القوى حتى يستطيع المناورة والفوز ، وهذا بالفعل ما أحدثته وفاة الحكم المستنصر سنة 366هـ / 976م إذ توفي الحكم وترك وريثه المؤيد بن هشام وهو طفل لا يتجاوز الثانية عشر من عمره إلا قليلًا ، فأخذت مراكز القوى في التحرك للحفاظ على مواقعها وحانت اللحظة الني كان ينتظرها المنصور ليبلغ مراده .

وكان من مصلحة المنصور أن تكون البيعة لهشام المؤيد حتى يظل على موقعه في الدولة ، بالإضافة إلى علاقته الوطيدة بأمه صبح البشكنسية التي كانت لن تترك الحكم يذهب بعيدًا عن يد ابنها، ولكن حينما بدأت الهجمات الصليبية على الأندلس تغيرت موازين القوى وتبدلت الأدوار .

هجمات النصارى على الأندلس :
حينما علم نصارى الشمال بأمر وفاة الخليفة الحكم المستنصر نقضوا ما كان بينه وبينهم من عهود ومواثيق ، وبدئوا في شن هجمات عنيفة على الثغور الإسلامية وذلك لإضعاف المسلمين في عهد حاكمهم الجديد حتى لا تقم لهم قائمة أخرى ، واشتدت حملاتهم حتى كادت تصل إلى قلب الخلافة الإسلامية قرطبة .

فما كان من مراكز القوى إلا أن تراجعت وكأن ضعف الأمير الصغير قد أثر عليها ، فغالب الناصري الذي كان يسيطر على مدينة سالم وهي إحدى الثغور الإسلامية بالأندلس لم يشأ الخروج لملاقاة النصارى وتعلل بأنه إن ترك المدينة هوجمت ، ولكن التفسيرات تقول أنه لم يشأ الخروج حتى يخرج المصحفي ويتضح بذلك قدره ومكانته في الدولة حيث أن العداء كان متأصل بين الأثنين .

أما المصحفي نفسه فقد كان خائر الرأي لا عزيمة له ، فقد كان يعتمد في الكثير من العمر على محمد أبي عامر ، وبالرغم من قوة جيش الأندلس لم يخرج المصحفي وكل ما فعله أنه أمر أهل قلعة رباح بقطع السد بينه وبين النصارى ظنًا أن هذا سينجيهم من غزو النصارى ، وهكذا بدت دولة الأندلس ضعيفة في ظل تردد حاجبها ومسير أمورها .

فهب محمد بن أبي عامر المنصور الذي استنكر على المصحفى تصرفه ، واعتبره ايذانا بضعف الدولة فكيف يكون لديهم كل هذا الجيش والعتاد ويلجئون لخطة دفاعية ذليلة لا تسمن ولا تغني من جوع ! وعرض المنصور على المصحفي تجهيز الجيش للجهاد ضد هؤلاء الغزاة ، ولكن المصحفي لم يجد من يتولى قيادة الجيش وبالطبع لم تكن لديه الجرأة والخبرة لفعل ذلك .

قيادة المنصور للجيش وخروجه لملاقاة النصارى :
فبادر المنصور للقيادة واحتاج في تجهيز الجيش مائة ألف دينار ، حتى يستعد بالجيش أفضل استعداد ، وبالفعل خرج على رأس الجيش في رجب سنة 366هـ فهربت أمامه جيوش النصارى واستطاع أن يستولي على حصن الحامة وربضة ، وعاد إلى قرطبة محملًا بالغنائم والسبايا بعد 52 يومًا من خروجه للحرب .

ففرح به أهل الأندلس وهللوا له كثيرًا بعد أن ملك قلوبهم وأحبوه ، كذلك أحبه الجنود وصاروا طوع أمره لما رأوه من شجاعته في الحرب ، فألت له الأمور بعد أن استمال غالب الناصري ورفع قدره عند الأمير هشام وأمه فلقب بذي الوزارتين ، وخرجًا معًا إلى قشتالة وقاما بفتح حصن مؤله فسبوا الغنائم وأبلوا فيه أحسن البلاء ، وتوطدت العلاقة بينهما كثيرًا حتى رأى غالب أن المنصور أحق بالحجابة من المصحفي .

استمالة المنصور لغالب وانحسار أمال المصحفي :
وقد جاء هذا تأييدًا لأمر الخليفة الذي عزل المصحفي عن حاجبة قرطبة وولها لابن ابي عامر المنصور بسبب نجاحه في في حروب النصارى ، فاثبت ابن ابي عامر في حكمه لها براعة منقطعة النظير ، ولما شعر المصحفي بأن الأمر استتب للمنصور بدأ في استمالة وغالب وخطب ابنه لابنته ، ولكن المنصور كان بالذكاء والبراعة التي يدرك بها ما يمكن أن تفعله تلك الزيجة .

فأرسل في طلب الزواج من أسماء ابنة غالب لنفسه فلما عقد القران رجحت كفة المنصور وانتقلت الحجابة إليه ، ولم يعد المصحفي يمتلك منها سوى اسمها ، فانفض الناس من حوله وكان يذهب إلى القصر منفردًا ويعود منفردًا في حين التفت جموع الناس والجنود حول الحاجب المنصور الذي تصدى لهجمات النصارى وأرعب أوروبا .

By Lars