المدائن هي عاصمة الفرس ومستقر ومسكن ملوك الفرس من الأكاسرة الساسانية ، ولقد سماها العرب المدائن لأنها كانت عبارة عن 7 مدائن وبها إيوان كسرى ، وتقع مدينتان من السبع شرق نهر دجلة وخمس مدن غرب النهر ، والمدينة الأولى تسمى مدينة بهرسير وتميزت بشدة قوتها وكانت أسوارها محصنة للغاية .
والمدينة الثانية تسمى مأخوذة وهي مجاورة لمدينة بهرسير وأيضًا مدينة ملاش أباد ومدينة درزنيرازتن ومدينة سلوقية حيث بنوا فيها كنيسة للنصارى ، وأيضًا مدينة طيسمون ومدينة أسفنابر التي بها إيوان كسرى ويحتوي بداخله على عرش كسرى .
ولقد ورد عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال : (ما كان حين أمرنا رسولُ اللهِ صلّ اللهُ عليهِ وسلَّم بحَفْرِ الخَنْدَقِ ، عَرَضَتْ لنا في بعضِ الخَنْدَقِ صخرةٌ لا نأخذُ فيها المَعَاوِلَ فاشتَكَيْنا ذلك إلى النبيِّ صلّ اللهُ عليهِ وسلَّم، فجاء فأخذ المِعْوَلَ فقال بسمِ اللهِ فضرب ضربةً فكسر ثُلُثَها، وقال اللهُ أكبرُ أُعْطِيتُ مَفاتيحَ الشامِ، واللهِ إني لَأُبْصِرُ قصورَها الحُمْرَ الساعةَ، ثم ضرب الثانيةَ فقطع الثلُثَ الآخَرَ فقال اللهُ أكبرُ، أُعْطِيتُ مفاتيحَ فارسٍ، واللهِ إني لَأُبْصِرُ قصرَ المدائنِ أبيضَ، ثم ضرب الثالثةَ وقال بسمِ اللهِ، فقطع بَقِيَّةَ الحَجَرِ فقال اللهُ أكبرُ أُعْطِيتُ مَفاتيحَ اليَمَنِ، واللهِ إني لَأُبْصِرُ أبوابَ صنعاءَ من مكاني هذا الساعةَ )
فلقد أوحي إلى الرسول صلّ الله عليه وسلم بفتح المدائن ، و في السنة 16 من الهجرة وفي شهر صفر أمر خليفة المسلمين عمر بن الخطاب رضي الله عنه سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أن يتولى قيادة جيش ليقضي به على الفرس ، فجهز سعد بن أبي وقاص جيشًا مكونًا من أربعة ألاف فارس واتجه بهم إلى القادسية .
وحقق الجيش الإسلامي يومها انتصارًا كبيرًا على الفرس ثم اتجه سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه إلى المدائن ، و.فتح بهرسير وهي من ضواحي المدائن ولا يفصلها عنها إلا النهر ، ولقد أخذ الفرس كل سفنهم من النهر وأصبح نهر دجلة عائقًا لوصول الجيش المسلم إلى الضفة الأخرى ، وهو لا يمتلك سفنًا .
وكان هنا القرار الأصعب حيث جمع القائد سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه جنوده ، وأخبرهم بعزمه على عبور نهر دجلة بالسباحة وبالخيول ، ووجد حماسًا شديدًا بين جنوده فقسم الجيش إلى عدة كتائب ، وجعل على رأس كل كتيبة رجلاً من أمهر رجاله فكانت كتيبة الأهوال بقيادة عاصم بن عمرو وكتيبة الخرساء بقيادة القعقاع بن عمرو وكان هو على بقية الجيش .
وبالرغم من أن الفرس مدججون بكل الأسلحة على الشاطئ الأخر ، إلا أن الجيش الإسلامي قفز إلى دجلة بجنوده وسلاحه وفرسانه وهم لا يخافون الغرق ولا يخافون المتربصون على الشاطئ ، وامتلأ نهر دجلة بالجيش المسلم حتى أن أحدًا لم يكن ليرى الماء من كثرة الفرسان وخيولهم .
وعندما استعد جنود الفرس بتصويب رماحهم إلى المسلمين ، أمر قائد كتيبة الأهوال عمر بن عاصم أن يصوب الجنود رماحهم على عيون خيول الفرس ، وبالفعل صوبوها وعمت الفوضى بين صفوف الفرس وفروا أمام المسلمين ، وانطلق الجيش الإسلامي بقيادة البطل سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه إلى المدائن .
ولما رأى الفرس ذلك فروا هاربين وعلى رأسهم ملكهم كان في مقدمة الهاربين ، ودخل سعد رضي الله عنه إيوان كسرى الذي كان غاية في الفخامة والروعة ، وعندما دخل سعد إيوان كسرى قرأ قولة تعالى ( كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ * فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ)
ثم صلى سعد صلاة الفتح وهي ثماني ركعات لا يُفصل بينها ، وبعد ذلك توجه القائد إلى القصر الأبيض وكان بالقصر بعض الفرس المتحصنين به ، ثم ذهب إليهم الصحابي الجليل سلمان الفارسي وقال لهم أنا منكم اقبلوا واحدة من ثلاث إما الإسلام ويكون ما لنا لكم وما علينا عليكم ، وإما الجزية وإما القتال .
فخرج الفرس من القصر وقبلوا بدفع الجزية بعد 3 أيام ، وهنا دخل القائد سعد بن أبي وقاص القصر الأبيض وهو قصر إيوان كسرى يوم 19 صفر عام 16 هجرية وصلى المسلمون صلاة الجمعة وغنموا غنائم كثيرة ومنها كنوز كسرى ، وأخذ سراقة بن مالك سواري كسرى الذين وعده بهما رسول الله صلّ الله عليه وسلم .
ولقد أقبل أهل البلاد على الإسلام إقبالًا شديدًا لسماحة الإسلام والمعاملة التي شاهدوها من المسلمين معهم ، ولما رأى الخليفة عمر بن الخطاب سوار كسرى بين يدي سراقة بن مالك قال الحمد لله ثم قال :
(اللهم إنك منعتَ هذا رسولك ونبيك، وكان أحب إليك منّي، وأكرمَ عليك مني، ومنعته أبا بكر، وكان أحب إليك مني، وأكرم عليك مني، وأعطيتنيه فأعوذ بك أن تكون أعطيتنيه لتمكر بي ، ثم بكى حتى أشفق عليه المسلمون من حوله) ، وهكذا سقطت المدائن وانهارت دولة الفرس على يد المسلمون .