لقد فرض الله سبحانه وتعالى الجهاد على المسلمين ، فلا يجوز للمسلم القادر البالغ أن يتخلف عنه إلا إذا كان لديه عذر شرعي ، وحينما كان يدعو رسول الله صلّ الله عليه وسلم المسلمين إلى الجهاد ؛ كان يخرج معه كل مسلم صادق .
كان لا يتخلف عن الجهاد إلا من لديهم أعذارهم الشرعية والمنافقون ، غير أنه حدث في غزوة تبوك أمر غريب حيث تخلْف ثلاثة من الرجال المؤمنين دون عذر شرعي ، كما أنهم ليسوا من أهل النفاق ، والثلاثة رجال هم كعب بن مالك ومرارة بن ربيع وهلال ابن أبي أمية .
لقد كان ذنب هؤلاء الرجال عظيم ، ولكن الله تعالى صفح عنهم وذلك لصدقهم مع أنفسهم ومع الرسول صلّ الله عليه وسلم ، حيث لم يذكروا أي أعذار وهمية كاذبة ، بل إنهم اعترفوا بذنبهم وعادوا إلى الله تعالى تائبين فتاب المولى عز وجل عليهم .
عودة النبي من الغزوة وصدق المتخلفين عن القتال :
حينما عاد رسول الله صلّ الله عليه وسلم إلى المدينة بعد الانتهاء من غزوة تبوك ، بدأ بالمسجد وهناك جلس مع الناس ، وهناك جاءه المُخلّفون عن القتال والذين كانوا بضعًا وثمانين رجل ، حيث قاموا بتقديم الأعذار وهم يحلفون ، وكان الرسول يستغفر لهم ويقبل منهم ظواهرهم .
وذهب فيما بعد كعب بن مالك إلى الرسول وسلّم عليه ، وحينها تبسم النبي تبسم المغضب ، ثم سأله :”ما خلّفك؟” ، فأجاب بن مالك قائلًا :”يا رسول الله ؛ والله لو جلست إلى غيرك من أهل الدنيا ؛ لخرجت من سخطه بعذر ولقد أعطيت جدلًا ، والله ما كان لي عذر حين تخلفت عنك” ، حينها قال الرسول :”أما هذا فقد صدق ؛ فقم حتى يقضي الله فيك”.
وقد حدث ذلك أيضًا مع الرجلين الصادقين الآخرين وهما مرارة بن الربيع وهلال بن أبي أمية ، حيث لم يقدما أعذار كاذبة ، قم نهى رسول الله صلّ الله عليه وسلم الحديث مع هؤلاء الثلاثة ، فاجتنبوا الناس ، فاستكان بن الربيع وبن أبي أمية في بيتيهما ، بينما كان بن مالك يصلي في المسجد ويجوب الأسواق ، ولكن لا أحد يكلمه حتى أقاربه .
بعد مرور أربعين يومًا أمر رسول الله صلّ الله عليه وسلم الثلاثة رجال باعتزال نسائهم ، ففعلوا ما أمرهم به الرسول ، حتى جاء الفرج بعد خمسين ليلة حيث جاءت التوبة ، ويقول كعب عن هذه الواقعة :”فما أنعم الله عليّ بنعمة بعد الإسلام أعظم في نفسي من صدقي رسول الله صلّ الله عليه وسلم يومئذ ، والله ما أعلم أحدًا ابتلاه الله بصدق الحديث بمثل ما ابتلاني”.
ذكرهم في القرآن الكريم :
لقد ذكر الله تعالى أمر هؤلاء الذين خُلّفوا عن الغزوة في القرآن الكريم حيث قال تعالى في سورة التوبة :” وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ”.
وبذلك فإن الله تعالى قد أزاح عن هؤلاء الثلاثة الغشاوة المؤلمة والحزن الذي سكن قلوبهم ، حيث أن الأرض كادت تضيق عليهم على الرغم من وسعها ورحابتها ، ولكنهم أدركوا أنه لا ملجأ من الله إلا إليه ، فكانوا صادقين مع الرسول ومع أنفسهم ، ولذلك استجاب الله لهم وغفر ذنبهم وتاب عليهم .