تذخر سير التابعين بالعديد من القصص المؤثرة ، والدروس المستفادة من حياتهم أجمعين ، فنرى فيها الزهد والورع والتقوى ، الخالصة لوجه الله تعالى ، وتظهر تلك الصفات المتميزة من خلال عددٍ من المواقف ، التي وردت بكتب الأعلام ، وأكثرها تأثيرًا هي اللمحات التي ذُكرت عن حياة ، جعفر بن حرب الهمداني .
هذا التقي الذي غيرته آية من القرآن الكريم ، والذي قد لا يهتز القلب لسماعه مع الكثير منا ، وإنما كانت لآية واحدة من القرآن ، تأثيرًا ساحرًا على قلب جعفر بن حرب ، فترك من أجلها الدنيا ومتاعها ، وأقبل على الله بقلبه وجوراحه ، وتلك مقطتفات من حياته .
هو جعفر بن حرب الهمداني ، عُرف عنه العلم الواسع والزهد في متاع الدنيا ، وقد ولد ونشأ في البصرة بالعراق ، وكان يتمتع بالكثير من الثروة والنفوذ ، وأُعد من أغنياء وأثرياء القوم آنذاك ، خلفًا لكل من والده وجده وعائلته ، ولهذا العالم الزاهد العديد من الأعمال ، والمؤلفات المتميزة ومنها ؛ كتاب الرد على أصحاب الطبائع ، وكتاب المسترشد والمتشابه من القرآن ، إلى جانب كتاب الاستقصاء وغيرها من المؤلفات ، وذُكر أن جعفر بن حرب ، قد توفى عن عمر ناهز الستين عامًا ، عام 236 هـ في مسقط رأسه بالعراق .
صفات جعفر بن حرب:
على الرغم من ثرائه الفاحش ، وغناه الكبير في هذا الوقت ، بين بني قومه ، إلا أن جعفر بن حرب اشتهر وعرف عنه ، زهده الكبير ، في متاع الدنيا كما وُصف ، بأنه عالمًا متكلمًا ؛ حيث قيل أنه قد درس في بدايته بالبصرة ، على يد أبي هذيل العلاف .
لينتقل بعدها إلى بغداد ويستكمل تعلمه ، على يد أبي موسى المردار ؛ والمعروف باسم عيسى بن صبيح ، وهو ناسك أسس لفكرة الاعتزال بالعراق ، في بغداد تحديدًا ، وقد ساعدته شخصيته الزاهدة الورعة بطبعها ، وفصاحة لسانه على تزايد الطلاب من حوله ، وطلبهم تلقي العلم على يديه ، وكان المردار قد توفى بحلول عام 226 هـ .
وبالعودة إلى جعفر بن حرب ، فقد روى عنه المرتضى ، أنه كان من شدة ورعه ، قد خشي من هذا المال ، الذي ورثه عن جده وأبيه ، فحاول قدر الإمكان أن يبتعد عنه ، وقد أتته مناظرة في هذا الوقت ، بمجلس الواثق وكان هذا وقت حضور الصلاة ، فقام كل من بالمجلس للصلاة ، وتقدمهم الواثق للصلاة بهم إمامًا ، وقيل أن جعفر بن حرب ، قد انسحب وخلع نعليه ليصلي وحده ، كناية عن عدم اقتناعه بصلاة الواثق بهم إمامًا ، فأخبره أحمد بن أبي دؤاد أن الواثق قد لا يعجبه ، ما فعله جعفر بن حرب ، وأنه كان يجب عليه عدم الحضور ، إذا لم يكن مقتنعًا به ، فأخبر جعفر بن حرب ، أنه لولا تمسّكه بحضوره ، أي أحمد بن دؤاد ، لما حضر إلى مجلس الواثق .
وقد ذكر أبو القاسم التنوخي ، في كتاب له عن أبيه ، بأن جعفر بن حرب ، كان يتقلد في هذا الوقت ، منصبًا أشبه بمنصب الوزير حاليًا ، وأثناء قيامه ببعض المهام إذا به يسمع رجلاً يقرأ الآية ؛ بسم الله الرحمن الرحيم: ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون (سورة الحديد ، 16) .
ولشدة تأثر جعفر بن حرب بتلك الآية ، ظل يردد وهو يبكي بشدة اللهم بلى ، ثم ذهب لينزل عن دابته ويغتسل بالمياه ، ولم يخرج سوى بعد ، أن قرر كيفية توزيع ماله وثروته ، على كثير من المظالم التي ردها لأصحابها ، ثم تصدق بما تبقى لديه من ثروة ومال ، ولم يكن لديه ما يستتر به ، فمر به رجل وعلم بخبره ، فقدم له مئزرًا ستره ، وانقطع بعدها جعفر بن حرب ، للعلم والتعبد فقط ، حتى وافته المنية .