عندما انطلق المسلمون لفتح الشام لكي ينشروا دين الله فيها ، اتجه جيش بقيادة سيدنا عمرو بن العاص إلى مدينة قيسارية ، التي كان يحكمها هرقل الروم والذي كان الجميع يشهد له بالذكاء ، ولما حاصر المسلمون تلك المدينة وأطبقوا عليها الحصار الشديد ، رأوا رايات بيضاء ترفع خلف أسوار المدينة ، فأدرك المسلمون حينها أن الروم يريدون الصلح .
وبالفعل بدأ الروم يفتحون أبوابهم أمام المسلمين ، وخرج من تلك الأبواب وفد من الروم وطلبوا من جيش المسلمون أن يرسلوا أحد رجالهم لكي يفاوض هرقل الروم في مدينتهم قيسارية ، وتم إبلاغ القائد عمر بن العاص بذلك ، وبمجرد أن علم بالأمر قال : ما لها أحد غيري ، فقد كان يريد الذهاب بنفسه ليفاوض هرقل الروم .
ولكن قادة الجيوش أخبروه أن هذه مجازفة خطيرة جدًا ، ولا يمكن لهم أن يخاطروا بالقائد العام للجيوش ، وقالوا له ماذا لو قتلك بعد أن يعلم أنك عمر بن العاص قائد جيوش المسلمين ، فقال سيدنا عمرو بن العاص : سأتنكر ولن يعرف بأني عمرو ، فأخبره القادة حينها أن هذا خطر أيضًا لأنه من الممكن أن يقتل رسول الجيش وهو يظن أنه قتل جنديًا من المسلمين .
ولكن سيدنا عمرو بن العاص أصر على الذهاب متنكرًا ، فسأله القادة لماذا كل هذا الإصرار على الذهاب بنفسك إلى هرقل الروم ، فقال سيدنا عمرو أن هرقل الروم رجل داهية وأخاف أن يخدع من يفاوضه من المسلمين ، ويحمله بشروط مجحفة فنكون مضطرين لتنفيذها ، لكني إذا ذهبت بنفسي فاني أعرف جيدًا كيف أفاوضه لصالحنا .
وبالفعل ذهب القائد المسلم إلى هرقل الروم وفاوضه على أنه جندي مسلم من جيش المسلمين ، وكان لعمرو بن العاص ما ظن فقد أراد هرقل الروم الاحتيال عليه بعقد صلحٍ مجحفٍ للمسلمين وفيه نجاةٍ للكفار ، ولكن سيدنا عمرو بن العاص كان أذكى منه وأحبط كل خططه التي حاول أن ينفذها ، فاغتاظ هرقل الروم وقرر في نفسه أنه سيقتل هذا الرسول وهو لا يعلم أنه قائد المسلمين عمرو بن العاص .
ولكن كيف يتم قتل رسول المسلمين وعادات القوم في هذا الوقت أن لا يُقتل رسول أبدًا ، فأراد هرقل الروم أن يقتله بحيلة ودبر له مكيدة وهي أن يعطي هدايا لرسول المسلمين من ناحية ويخبر حراس المدينة أنه إذا مر بكم رسول المسلمين فاقتلوه من ناحية أخرى ، وبهذا يخرج من تلك الورطة فهو لم يقتل الرسول بل قتله الحراس ومعه أشياء ثمينة تخص هرقل الروم .
وبعدها من الممكن أن يدفع ديته وبذلك يكون قد شفي غيظه ، وبالفعل خرج سيدنا عمرو بن العاص من عند هرقل الروم وهو لا يعلم بما يبيت له ، ولكن كان بالقصر رجلًا عربيًا من النصارى علم بنوايا هرقل الروم بقتل الرسول ، وكان هذا الرجل يعلم أنه سيدنا عمرو بن العاص ولم يظهر ذلك أبدًا ، فلما خرج سيدنا عمرو بن العاص اقترب منه هذا الرجل وهمس في أذنه قائلًا : ( كما أحسنت الدخول فأحسن الخروج يا عمرو بن العاص ) .
ففهم سيدنا عمرو بن العاص بأن هذا الرجل يعرفه تمامًا وأنه لم يظهر ذلك ، ولذلك فهم أن الأمر خطيٌر جدًا وعلم أن ذلك الرجل يحذره من مكيدة تدبر له في خروجه ، ولكن ماذا يفعل ؟ وكيف سيخرج ؟ وقد علم أنه سيقتل قبل أن يخرج ؟
لم يخف سيدنا عمرو وبدأ يفكر في حيلة ما يخرج بها من ذلك المأزق ، وقرر أن يعود إلى هرقل الروم وعندما رآه قائد الروم تعجب ، وقال له لماذا تعود وتحمل معك الهدايا ؟ فقال له سيدنا عمرو بن العاص لقد أعجبتني هداياك النفيسة وإن لي تسعة من الإخوة وأنا أغباهم وأحقرهم وأقلهم ذكاءً ، ونحن نعين عمرو على إدارة كل ما يصنع ، فما رأيك بأن أتي بهم جميعا ليأخذوا من هداياك النفيسة ؟
فوقع هرقل الروم في الفخ وقال في نفسه : إنها فرصة ذهبية بأنه سيخلص الدولة الرومانية من عشرة من الأذكياء مرة واحدة ، فقال لسيدنا عمرو بن العاص : اذهب وأتي بهم وأخبر حراسة بأن لا يقتلوه ويتركوه يخرج من المدينة حيًا سالمًا ، وبتلك الحيلة وهذا الدهاء خرج سيدنا عمرو بن العاص سليمًا معافى من حصن الروم .
وبعدها أطبق سيدنا عمرو بن العاص الحصار على المدينة حتى دخلها المسلمون ، وحينما رآه هرقل الروم قال له بتعجب شديد : أنت هو ! فقال له سيدنا عمر : نعم على ما كان من غدرك ؟ ثم خرج الروم بعدها من بلاد الشام كلها بفضل دهاء سيدنا عمرو وشجاعته الكبيرة ، و هذه القصة واحدة فقط من قصص داهية العرب سيدنا عمرو بن العاص فمازال له الكثير والكثير من القصص التي يتغنى بها المسلمون في الحرب والسلم .