مع كل قصة من قصص الصحابة فإننا نعيش فيها مع واحد من هؤلاء الأتقياء ، والذين ربَّاهم الحبيب صلَّ الله عليه وسلم على العقيدة الراسخة ، والإيمان الذي لا تزعزعه الجبال ، وكأننا نطير فوق السحاب ، ونلامس الكواكب بمجرد أن نتعايش مع صفحة مضيئة من حياتهم .

ولذلك قال الحبيب صلَّ الله عليه وسلم : الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف ، وما تناكر منها اختلف ، وها نحن نعيش بل ونتعايش مع رجل أسلم لله جلَّ وعلا ، وكان إسلامه مهرًا لامرأة من نساء أهل الجنة .

إنه من صحابة الرسول الكريم عليه الصلاة وأفضل السلام ، وعُرِفَ عنه أنه من النقباء الاثنى عشر ليلة العقبة ، ومن بني أخوال النبي صلَّ الله عليه وسلم ، ومن أعيان بدر رضي الله عنهم جميعًا .

قصة إسلامه وزواجه من أم سليم :
أسلمت أم سليم رضي الله عنها ، وكانت حينها متزوجة من مالك والد أنس ، والذي كان ما زال كافرًا ، وذات مرة سمعها تردد الشهادة بقوة وبعزيمتها التي كانت معروفة أنها أقوى من الصخر ، فعندها خرج من منزله غاضبًا ، فلقيه عدوٌ له ؛ فقتله .

ولما علمت بمقتل زوجها احتسبت وقررت عدم فطم الغلام في ذلك الوقت حتى أنها قالت : لا أتزوج حتى يؤمرني أنس ، وذهبت إلى الرسول صلَّ الله عليه وسلم وعرضت عليه على استحياء أن يكون ابنها خادم عنده فرحب النبي صلَّ الله عليه وسلم مما أسعدها كثيرًا .

انطلق الناس يتحدثون بما كان من المرأة وابنها بكل اعجاب وتقدير ، ولمَّا بلغ ذلك الصحابي الكريم ولم يكن أسلم بعد ؛ قرر أن يتقدم للزواج منها ، وعرض عليه مهرًا غاليًا ؛ فكانت المفاجأة الكُبرى له حين عَلِمَ بالرفض !!

عُقِدَ لسانه عندما عَلِمَ بالرفض ولكنه لم ييأس فقَدِمَ لها في اليوم التالي وهو يُمنَّيها بمهر أكبر وعيشة رغيدة ؛ عساها تلين وتقبل ، لكنها كانت تعلم أن قلعة الإسلام في قلبها أقوى من كل نعيم الدنيا .

بدأت الداعية الذكية في الشرح له أنه لا يُشرَع لها الزواج من رجل كافر ، وأن مثله لا يُرد ، ولكن الإسلام حرَّم زواج المسلمة من الكافر ، وعرضت عليه أن يكون إسلامه هو مهرها ولا تسأله غيره.

انطلقت هذه الكلمات تهز أعماقه حتى ملأت كيانه ؛ فهي ليست المرأة اللعوب التي قد تنهار أمام مغريات الدنيا ، وإنما تعمل على فرض وجودها بقوة عقلها ، وهل هناك خيرٌ منها لتكون زوجةً له ، وبعدها أمًا لأولاده ؟ إنه الآن أمام امرأة تمكنت من قلبه تمامًا.

ألقى الله حب الإسلام في هذا القلب الذي أحس بعظمته التي تجعل تلك المرأة لا تغريها الدنيا وزينتها بل تستعلي عليها بإيمانها ، وفي الحال ذهب الصحابي الجليل إلى النبي صلَّ الله عليه وسلم ، وأعلن إسلامه ، وتزوج بعدها بمن كان مهرها الإسلام !

ومنذ هذه الليلة عاش الصحابي رضي الله عنه في رحاب ونور الوحي وخالط الإيمان شغاف قلبه ، حتى شعر أنه أسعد أهل الأرض ولم لا ؟! وهو يعيش في جنة الدنيا بإيمانه ، وتعيش في بيته امرأة من أهل الجنة .

شاء الله عزَّوجل أن يُمتحن الزوجان فيما رزقهما جلَّ جلاله من الولد ، حيث مرض ابنهما مرضًا شديدًا ، وبعدها توفاه الله ؛ فتلقت المرأة المؤمنة موت ابنها بصبر ، وثبات ، ورضا بقضاء الله ، وقالت : الحمد لله إنا لله وإنا إليه راجعون ، ثم بدأت في تهيئة الأمر لزوجها فتلقاه بصبر واحتسب الزوجان أجرهما عند الله تعالى .

يقول فيه الرسول صلَّ الله عليه وسلم أن صوته في الجيش خير من ألف رجل ، وكان من الأبطال الذين ثبتوا مع رسول الله يوم أحد ، ودافع عنه بكل ما يملك ، فكان إذا رمى رفع رسول الله بصره ينظر أين وقع السهم ، وشهد أيضًا مع الرسول صلَّ الله عليه وسلم ، وقتل عشرين رجلًا .

كان كريمًا لا يضن ، ولا يبخل بالمال أبدًا ، وعندما نزل قول الله تعالى لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ۚ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ 92 آل عمران ؛ تصدق الصحابي الجليل بأحب أمواله وأملاكه لله تعالى ووهبها في سبيله .

ظفر بحفنة من شعر النبي صلَّ الله عليه وسلم ، فبعد أن رمى الرسول صلَّ الله عليه وسلم جمرة العقبة ، ونحر البُدن ، حلق شق شعره الأيمن فقسمه فيمن يليه ، ثم حلق الشق الأيسر وأهداه له .

عاش حياته رضي الله عنه عابدًا قائمًا مجاهدًا في سبيل الله فكان لا يفطر إلا في فطر أو أضحى أو مرض ، ولكنه في آخر أيامه حالت شيخوخته بينه وبين الجهاد في سبيل الله ولكنه أصر أن يجهزه أبناؤه للجهاد حين سمع قول الحق سبحانه وتعالى : { انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ، 41 سورة التوبة .

فما إن ركب البحر حتى مات فتم دفنه بعيدًا عن الأهل ، والعشيرة ، والأصحاب ، ولكنه ليس ببعيد عن عين الله سبحانه وتعالى الذي سأجزيه عن صبره يوم القيامة في جنات النعيم مع النبي الأمين وصحابته الكِرام .

By Lars