أحيانًا يرسل الله سبحانه وتعالى لنا هبات على هيئة بشر يمدون لنا يد العون عند الحاجة ، دون أن نعرفهم أو حتى يعرفوننا فقط تلعب الأقدار دورها وتضعهم في طريقنا ، وحينما يمضون قد لا نراهم ثانيةً ولكننا حتمًا نتذكر جميل صنيعهم ونتفكر في تدبير الله عندما وضعهم في طريقنا .
داخل أروقة مستشفى القطيف المركزي وقعت أحداث تلك القصة لضابط شاب ، كان على عكس الصورة التي نأخذها عن مهنة الشرطة ومن يعملون بها ، فرغم ملامح الحزم والجدية التي كانت مرتسمة على وجهه كانت هناك مسحة من الحزن الممزوج بالأسى والرفق الذي يكشف عن عذوبة قلب طيب .
دخل الشاب في عصر يوم الاثنين إلى داخل المستشفى لزيارة أحدهم ، فاصطحبته الممرضة إلى غرفة بالطابق الثاني وقالت للرجل المسن الذي يرقد على الفراش : لقد أتى ابنك كي يراك يا شيخ ، كان عليها أن تكرر تلك الجملة عدة مرات قبل أن يفتح المريض الراقد على الفراش عينيه وينظر صوب ابنه بصعوبة بالغة .
فقد تعرض للتخدير الشديد بسبب الألم الذي عاناه على اثر نوبة قلبية مفاجئة ، وفي محاولة منه للتواصل مع ابنه نظر إليه من فوق قناع الأكسجين الذي يغطي نصف وجهه ، ورآه يرتدي الزي العسكري ويقف بالقرب منه فمد يده ليمسك بيد ابنه ، فمد الشاب يده على الفور وأغلقها على يد الأب العجوز في محاولة لدعمه وتشجيعه .
بعدها بدقائق قليلة جلبت الممرضة كرسي كي يجلس الشاب إلى جانب أبيه ، فظل طوال الليل منتظرًا إلى جوار الأب المريض كان يمسك يده ويقدم له كلمات الحب والقوة ، بعد فترة طويلة اقترحت الممرضة على الشاب أن يذهب ليستريح بعض الوقت لكنه رفض وظل إلى جوار الأب النائم .
كان الجو في المستشفى هادئ ليلًا لا صوت سوى قعقعة الأجهزة وبعض ضحكات وهمسات الممرضات في الأقسام وهو يتحدثون عن المرضى والحالات الوافدة على المستشفى ، والمواقف التي حدثت على مدار اليوم ، كان الشاب مستيقظًا طوال الليل ولم يغمض له جفن فقد كان الأب في حالة خطيرة .
وكان الوالد طوال الليل يمسك بيد ابنه دون أن يفلتها الشاب ، فلم يتحرك من مكانه أو يذهب لأي مكان حتى لا يقلق الأب المحتضر ، كان الشاب يتكلم معه بكلام كثير عن مدى طيبته ونقاءه وأنه رجل صالح وأنه يحبه كثيرًا ، ظل يحاكيه هكذا إلى أن احتضر الرجل في مطلع الفجر .
حينها فقط أطلق الضابط الشاب يد أبيه التي فارقت الحياة ، وذهب ليخبر الممرضة كي ترى ما يمكن فعله ، فذهبت الممرضة لتخبر المختصين وبعدها عادت إلى الضابط كي تواسيه وتقدم له كلمات التعاطف ، ولكنها صدمت حينما سألها الشاب قائلًا : من كان هذا الرجل ؟
فأجابت متفاجئة : لقد كان والدك يا سيدي ! فقال الضابط الشاب: لا لم يكن والدي تلك أول مرة أراه في حياتي ، فاندهشت الممرضة متفاجئة وقالت له : لماذا لم تقل إذن أنه ليس والدك ؟ فقال الضابط الخلوق لقد أدركت حينما جلبتيني في البداية إلى غرفته أن هناك خطأ ما .
ولكني أدركت أيضًا أنه بحاجة إلى رؤية ابنه في أخر لحظات حياته ، ولما وجدت أنه مرضه شديد لدرجة أنه لا يستطيع التمييز بيني وبين ابنه قررت البقاء إلى جواره ومساندته حتى يشعر أن ابنه كان معه حتى فارق الحياة ولم يخذله أو يتركه أبدًا ، لقد بقيت لأنني علمت أنه يحتاجني في هذا الوقت بالذات .