أثناء وجودي في باريس للحصول على شهادة البكالوريوس أوقفت سيارتي ذات يوم أمام أحد المراكز التجارية لأشتري بعض الملابس ، وبينما أنا على وشك النزول من سيارتي وردني اتصال هاتفي من والدتي الحبيبة تبشرني فيه أن أختي الكبرى أفنان رزقاها الله بمولود جميل المحيا أسموه أحمد على اسمي .
فنزلت من سيارتي وعلى وجهي ترتسم ابتسامة عريضة وبينما أنا أفكر في مولودنا الصغير ومدى اشتياقي لأهلي بعد سنوات الفراق الطويل ، اصطدم بي أحدهم وميزت من الصوت أنها امرأة ، فاعتذرت لي فقلت لها بسرعة دون أمعن النظر فيها : أوكي نو بروبلم .
فرفعت بصرها إليّ وأمعنت النظر في كأنها ترى شيئًا غريبًا ، وقالت لي في تساؤل ولهفة : أنت سعودي ؟ فأجبتها نعم يا أختي وعرفت من ملامحها الجميلة أنها فتاة سعودية ، وبدأت الفتاة تجهش بالبكاء وتطلب من المساعدة ، حاولت تهدئتها ولكنها كانت في حالة سيئة .
أخذت تستحلفني بالله وتقول لي : أخي ساعدني بالله عليك فأنا أختك ، كان الموقف محرجًا للغاية ، فقد ظن المارة أنها أختي أو زوجتي وأنا من يبكيها فأخذوا يغمزونني بنظرات وعبارات مستنكرة ، فقلت له بهدوء أختي سأفعل ما تريدين ولكن دعينا نخرج من السوق الآن وأخبريني ما تودين ؟
بعدها مشينا قليلًا إلى خارج السوق وكان عطر هذه الفتاة فواحًا لدرجة كبيرة وشكلها ملفت نوعًا ما فبدأت أهدئ من انفعالها ووقفت أمام أحد محل البيع الحلوى واشتريت لها دونات بالشيكولاته ، وبعض الماء البارد لتغسل وجهها وتشرب .
فلما شربت الفتاة وهدأت أجلستها على أحد كراسي السوق الخارجية وجلست بعيدًا عنها بعض الشيء ، ثم بدأت بالكلام معها عن أصلها وفصلها وحكت لي قصتها ، حيث أخبرتني أنها ابنة أحد كبار الشخصيات بالمملكة ، ولكن انشغل عنها والدها كما انشغل عن إخوتها ، واهتم بمنصبه وترقياته ولم يفعل لهم شيء سوى إغداق المال عليهم .
أخبرتني أن والدها كان يظن أن السعادة في المال ، ولكن جراء جريه خلف تلك السعادة الزائفة ضيعهم وجعلهم لقمة سائغة في فم المفسدين ، فعبثت الذئاب في أعراضهم وخاضت فيها ، حينما أنهت الفتاة تلك الجملة انفطر قلبي وأخذت أحاول تهدئتها ثانية وهي تبكي بحرقة شديدة وتقول : ليتك ضيعت كل أموالك يا أبي ولم تضيعنا .
وهنا انتبهت إلى قطع الدونات التي كانت بيدها حيث فلم تكن قد أكلتها بعد ، فطلبت منها أن تأكلها فشكرتني وبدأت في تذوقها ، حينها كنت أفكر كيف لوالدها أن يترك أبنائه هكذا من أجل المال ؟ كيف يضع بيده نهاية أبنائه بدلًا من أن يرسم لهم خط البداية .
قاطعت الفتاة المسكينة أفكاري تلك حينما شكرتني على الحلوى فقلت لها بالهناء والشفاء ، بعدها بدأت أتحدث معها عن سماحة الإسلام وكيف أن الله أمرنا بفعل الخير والابتعاد عن الشر ونصحتها ألا تسلم لما هي فيه وتلجأ لله عز وجل الذي وهبها الصحة والجمال وأمرها أن تحافظ عليهم .
وأخبرتها بأسلوب لين أن رائحة عطرها الفواحة لا تليق بفتاة مسلمة مثلها ، وطلبت منها أن تعاهدني على الالتزام والصلاة فوعدتني بذلك ، وحينما هممت بالمغادرة استوقفتني لأجلس معها قليلًا فأخبرتها أن هذا ليس صواب ، ولكني وعدتها بتقديم المساعدة متى أرادت .
وانصرفت بعد أن أعطيتها عنواني ورقم هاتفي فشكرتني الفتاة كثيرًا ، وعندما اتجهت إلى سيارتي وجلست بها أخذت أبحث عن ورقة كانت ضمن أوراقي بها ، فإذا بزجاج النافذة يطرق بأدب وحينما نظرت صوب الطارق وجدتها نفس الفتاة تمسك بيدها دونات الشيكولاته ، فقدمتها لي وقالت لي : أخي هذا أقل ما أقدمه لك على ما فعلته معي شكرًا لك فقد خففت عني كثيرًا وأصلحت بيني وبين نفسي .