كنت أنا وهي والليل في مدينة كبيرة نائمة ، بعد أن فارقنا الصديق سكران بخمر حانتين ، وقف يودعنا ليلحق بآخر قطار ، ولم يدعنا معه ، فهو يسكن الغرفة الضيقة التي لا تتسع إلا له ولزوجته وبنتيه .
العاشقان والليل :
قلنا لليل : يا ليل هل تأوينا ؟ ، قال الليل : أنا أكتم سر العشاق ، وأداري نومه الفقير .. قلنا : فنحن عاشقان غريبان ، ليست هذه مدينتنا ، غادرنا مدينتان لأنها تترصد للعاشقين ، وتفضح سر قلوبهم ، قال : شقا طريقكما وأنا معكما أسمع وأرى .
غرفة صديقي :
كان طريقنا طويلاً وبعيدًا ، قلت آخذها إلى غرفتي التي منحها لي صديق ، ولأجرب معها الحب ، ولأكون مثل كل الأحبة التي قرأت عنهم في الروايات ، ورأيتهم على شاشات التلفزيون يتأبطون الأذرع منطلقين في خفة ، يرمي الهواء شعرهم إلى الوراء ، وحولهم تطير النسمة المغردة ، وينمو الزهر المبتسم ، وتزقزق لهم بلابل لا تراها العين ، وخفت لأن صديقي حين أسكنني قال : لا تصطحب إلى غرفتي امرأة ، فأنا أخاف الناس ، ولا تأت آخر الليل سكران ، فأنا لا أحب الخمر التي حرمها الله .
لا تحزني :
تمنيت لو أجد البوابة الجديدة مفتوحة سنمرق منها خيفة ، وأدير في ثقب الباب مفتاحي الكتوم ولا أشعل مصباحًا ، ففي الظلمة سأرى نور وجهها الحبيب ، ولا أرفع صوتا فيكفينا همس القلوب ، هناك وجدت المصباح يرش على البوابة نوره ، وسقطت خيالتنا على قضبان الحديد المربوطة بالسلسلة الغليظة نظرت إلى أعلى ، ولم أقدر أن أرفع صوتي لأنادي عليه ، وغاظني انغلاق نافذته القريبة ، نظرت إلى وجهها الشارد وقلت : لا تحزني .
عباءة الليل :
قالت : طالما أنا معك .. لا يهم ، والليل قابعًا هناك في الأرض الخلاء ، يكتم ضحكة ، قلت : ياليل ، قال : أنا لا أغلق البوابات ، فأرضي رحبة ، ويدي بعرض السماء ، قلنا : ولكننا نريد جدارًا وفرشًا ، قال : أنا لا أملك غير عبائتي السوداء ، قلت لها : فلتذهبي إلى صديق قريب من هنا ، ينام النهار ويسهر الليل ، قالت : كيف ننام عند غريب ؟ .
أحطتها بذراعي ، وقلت : لا تبالي .. فقلبه مفتوح ، كان النور يخرج مع الموسيقى من شيش نافذته المغلق ، مددت يدي على آخرها ، وخبطت طرف النافذة ، فارتجفت الضلفتان ، وتردد صوت الطرقات كأنها فراغ ، وكانت هي واقفة عند البوابة ترقب الباب من الداخل ، خبطت مرة أخرى ، ونادته باسمه ، وفي المرة الثالثة انطفأ النور ، وخفت صوت الموسيقى ، وانتظرنا فلم يخرج أحد ، قالت : لا فائدة .
الأبواب المغلقة والليل العجوز :
وعدنا نعبر بقع الماء بين البيوت المغلقة الأبواب ، كانت في الصمت وفي الضوء القليل شبيهة بشواهد القبور ، وألف عين وراء النوافذ تراقبنا ، وتحبس ضحكات متشفية ، والليل العجوز يسير خلفنا يخب في عباءته ، كنا نسبقه بمسافة ، وهو على آخر ظلنا المتعرج ، مجتهداً في مشيه ، يحاول اللحاق بنا ، يرفع العباءة المهترئة من حين لآخر ، ويلقيها على كتفه فتلم بعثرة لحيته الرمادية .
السير في الليل والشرطي :
على أول الشارع الكبير كانت السيارات المجنونة تمرق مسرعة ، سرنا على الرصيف فرحين بالنور الغامر ، وإن كان قد جمع باصفراره قليلاً من الوحشة في جانب القلب ، خرج علينا الشرطي فجأة من وراء سور تنتشر عليه الأشجار المتشابكة المظلمة القاتمة ، كان وجهه مشدودًا ، وأسنانه سوداء.
بل كل لباسه كان أسود : السترة ، البيريه ، والسترة ، السروال ، والنعل ، تقدم نحونا ، فكدنا نرجع بظهورنا فارين ، حمامتان سقطا بغفلة على خيال مآتة ، وكانتا تمنيان نفسيهما بحب وفير في أرض خصبة ، قلنا : نحن أخوان ذاهبان إلى قريب يحتضر .. ونظر خلفنا فرأى شبح الكهل ، فتراجع وقال : لا تفعلانها مرة أخرى ، فإن الدولة تدفع لي راتب ، من أجل أن أمنع أمثالكما من السير في الليل ، وانطلقنا .
خوف وانطلاق :
وانطلقنا !! في البدء سرنا بجوار السور متلاصقين نخاف انقضاض اليد على أكفيتنا وبعد أن سرنا مسافة معقولة ، مشينا متحررين ، ولكننا لم نتكلم ، فقد نظرنا إلى الوراء لنطمئن ، فواجهتنا الابتسامة في الوجه العجوز ، والفم المفتوح كطاقة مقبرة مهجورة .
في المقهى :
في المقهى المفتوحة على الميدان الواسع ، والتي ستظل ساهرة طوال الليل ، جلسنا على المنضدة ، طلبنا قهوة تعين على السهر ، وتقاوم النوم الذي بدأ يتسرب ، أمسكت بكفها الباردة وقلت : أنا آسف ، قالت مبتسمة : أنا سعيدة ، قلت كنت أود أن .. قالت : وأنا !.. ولا أدري ان كانت قد عرفت مقصدي .
فأنا كنت أمنى بليلة ينفتح فيها قلبي ، ويقول لها كل ما طواه تحت لسانه المتلعثم ، وكنت أريد أن أقول لها كلام العشاق المعتاد ، لقد أحببتك من أول نظرة ، وحين عرفتك قلت أنك الفتاة الممنوحة لي من السماء ، وإنني أرى في عينك مدينتي المبهجة .
الصديق وجها لوجه :
وفي اللحظة التي أردت فيها تأمل عينيها لأتشجع وأقول : رأيته على المنضدة البعيدة ، قابعا تحت مصباحها ، ثم رفع لي عينه ، فارتد بصري ، وماتت الكلمات في حلقي ، وكنت أريد أن أقول له : لم نعد بحاجة إليك ، فنحن ونس الناس والمصابيح ، ولكنه واصل بحلقته ، كمن يقول : لقد استعميتماني ، وأنا لن أتخلى بسهولة .
النهار يحبو إلى الميدان :
قالت : القهوة لم تفعل شيئًا ، والنوم غلبني ، قلت : اقتربي مني ، ونامي على كتفي ، ارتاح رأسها على كتفي ، وأملت رأسي ، وجعلت الخد على الخد ، ويدها كانت تحت المنضدة في يدي ، قلت في أذنها : أحبك ! وحركة شفتيها بمزيج من خدر النوم والحب الهادئ ، وكأنها تردد كلمتي ، وغفونا .. كان نومًا جميلاً خاليًا من الأحلام والكوابيس ، قامت تفرك عينيها وترجع شعرها إلى الوراء .
وهالني أن النهار كان يحبو في الميدان ، يحاول أن يشب على الجدران العالية ، ولما نظرت المنضدة إلى البعيدة وجدتها فارغة ، والكرسي كان مائلا على طرفها ، ولكننا لم نسمع شقشقة العصافير ، فقط رأينا صحوة مدينة كبيرة ، تدور في شوارعها سيارات مدببة الزجاج ، وعربات تجرها الخيل ، عليها أقفاص الفاكهة والخضار ، وجنود يجرون حول اسطوانة الميدان ، وكان صوت أحذيتهم الثقيلة ، يسمع من موضعنا .