قلمي ينزف كعبير قتل لتوه ، صفحاتي تكتظ بالأحرف الأبجدية ، كل الكلمات تبدو باردة هذا المساء ، تبدو بلا روح ، بلا نبض ، بلا دماء ، أتمدد في الفراش ، أغمض عيني ، .. لا .. لا ، ثمة شيء يلح عليّ ، وعلى ما أكتبه .
سهر وتفكير :
أحمل القلم من جديد ، الكلمات تتساقط منه مثلما يهطل المطر ، لم أقل ذلك الشيء الذي يلح عليّ وأود كتابته ، أخلع الصفحات من الدفتر المدرسي ، أمزقها إربًا إربًا ، يا إلهي ، أحس بالإجهاد رأسي يدور أرنوا إلى الساعة : إنها الثانية بعد منتصف الليل ، كم أود أن أغط بنوم عميق ، لكن لما تزل الأفكار تدور في رأسي ، ما العمل ؟
بين المراهقة وأحلام اليقظة :
أتذكر .. عندما كنت في سن المراهقة قبل عشرة أعوام ، وفي مثل هذه الحال كانت عندي أحلام اليقظة فتاة ، أجمل فتاة على وجه المعمورة ، وكنت أضعها في فراشي ، ثم لم ألبث أن أراني وقد استيقظت نشيطًا … إذن هل أكرر الأسطوانة ؟ لا أعتقد .. سن المراهقة شيء ، والآن شيء مغاير له تماما ، والحل ؟ أشرد بذهني ، أمد يدي تحت الوسادة ، أسحب علبة السجائر ، وأقوم من الفراش ، أفتح الباب ببطء وأخرج للشارع .
عندما ترتاح الأرصفة من وطأة الأقدام :
المدينة ترقد بأمان ، وحبال الصمت تلفها لا همس ، لا ضجيج ، لا حراك ، أتسكع بخشوع في الدروب الخالية من حركة الإنسان ، كلاب تدور حول كوخ للدجاج ، قطة سوداء قاتمة تموه فوق حائط طيني عتيق ، ولا شيء غير سيمفونية الصمت وظلام الليل ، حيث تتحول المدينة إلى قرية مهجورة ، شرب الزمان فيها وثمل منذ العصور البربرية ، وبحركة لا إرادية توقف عن المسير .
دع الخلق للخالق :
أحس بوطأة أقدام تدب بالقرب مني ، أقترب من عمود الكهرباء ، أتخذه ستارًا لجسدي ، وأبحلق في العتمة بصمت ، باب ينفرج قبالتي ، ثلاث قامات تخرج من الباب بحذر ، أرنو باهتمام وإعجاب فأتمكن من رؤية صندوق ، جرة غاز .. مسجلة .. حقيبة نسائية .. أهمهم في سري : دع الخلق للخالق .
فضول :
لكن الفضول يدفعني ، وحب الاستطلاع يزيحني أكثر ، شباك شبه مفتوح وإذا ما رفعت رأسي سأرى ما بالداخل ، أمد يدي ، أتمسك بزاوية ، وأرفع جسدي مستعينًا بعضلات يدي ، لم أر بعد ، ألصق قدمي بالحائط ، أمد يدي الأخرى وأرفع جسمي ثانية ، شق النافذة ينفتح بسرعة جنونية ، يرتطم بالحائط ، وأسقط على الأرض ، منهوك القوى أحدهم يزعق ، يعتلى جدار الشرفة ، يقفز .. أركض بكل ما أوتيت من سرعة ، يضع ذيل جلبابه في فمه ، ويلاحقني قائلًا : توقف أيها اللص اللعين! وأستأنف الركض بشدة وسرعة ، وهو خلفي مثل الكلب المسعور .
هروب :
أتمايل إلى جهة النهر ، أختفي تمامًا تحت جنح الليل أرقب مجيء الرجل ، يصل ويتوقف عن الطريق ، يحملن إلى الوادي ، ولا يراني تتراخى مفاصلي يجف لعابي وتصطك أسناني ، ما العمل !! ربما قرر هذا الرجل البقاء هنا حتى بزوغ الضوء ! في هذه الحال ما عليّ إلا عبور النهر إلى الجهة الأخرى .
منذ الآن وأنفذ بجلدي السليم ، قلت : سأجرب طريقة معه ، وعلى الفور مددت يدي إلى حجر كبير ، ورفعته وبعزم قذفت به نحو الرجل ، ارتعد الرجل وصار يبحلق حوله بسرعة مثل دجاجة خائفة ، وبدون تسويف بدأ يتراجع ، أرفع رأسي ويتراجع وأقف على قدمي ويتراجع ، حتى توارى عن ناظري بياض كنزته !
حرية وخوف من جديد :
ومن جديد اعتراني شعور من أزيحت عن ظهره صخرة كبيرة ، وعدت أتنفس ملء حريتي ، وحقا ما أروع التنفس بحرية وشرب السجائر بحرية ، وبقدرة قادر ترامى من حديقة النهر دوي امرأة .. يا إلهي ماذا جرى ؟ سأوقع نفسي في ورطة ! وما هذا هل صوت انسان أم صوت جن ..جن ..جن .. يقولون أنهم يحتفلون بعد منتصف الليل ، على ضفة النهر في الحديقة ، والله أن أسمع بدون رؤية محال .
صراع الجن ليلاً والعودة للبيت :
سأرى وحتى لو كلفني نصف عمري ، الآن لم يبق بيني وبين مصدر الصوت إلا خطوات ، يا سلام .. امرأة تتمسك بكتفي رجل قزم جدًا جدًا ، وواضح أن الرجل يحمل على ذراعيه .. المرأة تسب ، وتشد شعرها ، وتلطم خديها ، والرجل يصر على الذهاب إلى النهر ، وبيديه ذلك الشيء الذي لم أتمكن من رؤيته جيدًا ، وعقب همس وكلام وشتائم وضرب يهرول الرجل القزم بخطوات سريعة إلى النهر يختفي قليلاً ويرجع كالمصعوق يجرجر المرأة معه ، ويختفيان في ظلام حالك أدير ظهري ، وبخطى باردة أتجه إلى البيت ، شاحب الوجه .