لم تكن تعلم بزرع الجدار العازل على أرض قريتها ، في فلسطين وهي تقبع في غرفتها الصغيرة المعزولة في مستشفى إحدى العواصم العربية ، بعد أن حصلت على منحة علاج من إحدى المنظمات الطبية الخيرية الدولية ، بعد طول انتظار لتعالج مرض السرطان الذي عزا ثديها منذ أن وضعت ابنها الوحيد هاشم .
مشاركة السكن وموجهة العدو :
وقد منعها المرض من أن ترضع ابنها الوحيد ، ولو لمرة واحدة في حياتها ، ثم ألجأه إلى حضن عماته الثلاثة الغير متزوجات اللاتي يشاركنها السكنى في البيت نفسه ، كما يقاسمنها أعباء الحياة القاسية في مواجهة عدوّ من اعتاد جنوده ، على مهاجمة بيتهم في دوريات تفتيشية مداهمة مكرورة ، منذ أن اعتقلوا زوجها في مواجهات احتجاجية في الشهر الثاني من حملها .
اخفاء المرض عن الزوج المعتقل :
وكذلك زوجها لم يعرف شيئًا عن مرضها أو عن سفرها خارج الوطن ، برفقة والدها من أجل العلاج ، فقد أخفت أمر مرضها عن زوجها بناء على رغبة شقيقاته ، اللواتي آثرن التكتم على هذا الخبر ، لكي لا يزدن من عذابات معتقله وبوائق أحزانه وآلامه .
مساحة جرداء تحتضن جدارًا إسمنتيًا:
كانت تحلم أن تعود إلى بيتها بعد طول غياب ، لكي تضم صغيرها إلى صدرها الذي فقدت جزء منه بسبب المرض ، فتشمه وتغيب معه في احتضان طويل دافئ ، يجفف برد حرمانها منه ، وما كانت تعلم أنها ستجد وطنها قد سرق من جديد ، وأن بيتها قد أصبح محض ذكرى سرابية بائدة ، وأن شقيقات زوجها قد توزعن على بيوت الأقارب مهجرات ، بعد أن صادر العدو بيتهم وأرضهم ، وحولها إلى مساحة جرداء تحتضن جدارًا إسمنتيًا ، يحول الوطن إلى سرادق ضيقة ، ومصائد وفئران وسجن انفرادي .
حالة أمومة :
تلاشى حلمها الوردي بأن تحتضن طفلها الصغير ، بعد أن تحول إلى كابوس تعيشه بتفاصيله القبيحة الموحشة ، وها هي قد أصبحت لاجئة في وطنها ، وعلقت مع أبيها في بيت حجرة يسكنه أفراد عشرة من أقربها ، ومن جديد بات عليها أن تحارب سرطان الألم والوحدة والنبذ ، حاولت دون جدوى أن تعود إلى أسرتها خلف الجدار .
واشتدت محاولاتها إلحاحًا عندما علمت أنّ زوجها قد خرج من المعتقل ، واكترى بيتًا صغيرًا في أطراف قريته ، وجمع شمل أسرته من جديد ، وجعل شغله الشاغل أن يجد طريقة ، تسمح لزوجته بالعودة إلى بيتها وأسرتها وابنها ، ولكنه كان يخفق المرّة تلو الأخرى ، في تحقيق مراده ، ويعود إلى سريره الحزين مخزولاً محرومًا .
رائحة الأمومة :
وكانت الفرصة الوحيدة للقاء هي عبر الحصول على تصريح زيارة حصلت عليه بشق الأنفس ، ولو كان هناك سفر للشمس لكان أيسر من الحصول عليه ، وأخيرًا استطاعت أن تضم طفلها إلى صدرها ، تحت عيون الرقباء غير الوامقين ، من الجنود الصهاينة ، بدا لها أنه بالغ في الاعياء على الرغم من تلك الحمرة الوراثية التي تعلو وجنتيه ، جفل منها ، عندما أمطرته بقبلها الهوجاء الملوعة ، ولكنه استسلم سريعًا إلى رائحة أمومتها الفياضة ، التي تزكم أنفه وهي تدسه في حضنها بانفعال واضطراب .
عشيرة من الأمهات والأخوة :
عيناه مؤل لحزن عتيق ورائحته تعج برائحة عشرات النساء اللواتي تناوبن على إرضاعه بعد أن فقد أمه كي يحافظن على حياته من الهلاك ، فأصبحت له عشيرة من الأمهات المرضعات والأخوة بالرضاعة ، ضمته أكثر إلى صدرها ، لعلها تكسوه برائحتها الحانية ، فتنزع عنه رائحة الأمهات المرضعات الكثر اللواتي يشاركنها أمومتها بوحيدها الصغير .
انتهاء الزيارة وخطوات ثقيلة :
سريعا ما ننتهى وقت زيارة التصريح وتلقف زوجها ابنهما منها ، وضمه إليه بشجاعة يحاول أن يصطنعها على كره وإصرار ، ولكنه يخفق في اتقانها ، طبعت قبلة سريعه على جبين الطفل ، وهمست في أذنه : سأعود قريبًا ، صدقني .. ثم غادرت المكان ، وهي تخلع المرة تلو الأخرى من الأرض التي يصعب عليها مغادرتها ، ومزقة من قلبها تضطرب بعجز بين يدي زوجها الذي يسير نحو البعيد مهدمًا ضعيفًا ، وكأنه شاخ بمقدار قرن أو اثنين في أسابيع قليلة .
بعد مرور يومين :
مضي يومان وهي تحلم بأن تضم طفلها إلى صدرها من جديد ، وهي أسيرة عينيه الزائغتين في فراغ المجهول ، عندما رفض الدو أن يعطيها تصريحًا للزيارة ولو لدقائق قليلة ، هزأت من جبنه المتجبر على طفل صغير وأم مريضة ، وقررت أن ترى الطفل سواء أوافق العدو أو رفض .
قرار أخير :
في المساء كانت قد عبرت الجدار الفاصل رغم أنوف الجنود الصهاينة المدججين بالسلاح ، والخوف والحذر ، ولكنها لم تكن تسعى حية على قدميها عندما عبرته ، بل كانت جثة هامدة مخرقة بالرصاص ، وموصومة بجريمة التخريب ، ركلها الضابط المناوب على الحراسة الليلية بحذائه العسكري الغليظ ، وأمر جنوده أن يبعدوها عن البوابة ، ففعلوا وكوموها بجوار الجدار وكف يدها متخشبة على ثديها الأيمن الذي كانت تحلم أن ترضع ابنها منه ولو مرة واحدة ، في حياتها المهدورة على بوابة الجدار العازل .