ستة شهور متتالية ، أمضاها ظهير على سرير المرض ، ستة شهور علمته ، ما لم تعلمه إياه خمسون سنة من عمره ، الآن يعتريه احساس منعش ، بأنه انتقل إلى مرحلة جديدة من مراحل حياته ، مرحلة لم يكن يخبرها بشيء ، ولم تخطر له ذا يوم ، كنه وليد فتح عينيه للتو على حياة يراها لأول وهلة .
فراغ وضيق وقت :
الآن يكتشف حجم الفراغ الهائل ، الذي كان به رغم أشغاله الكثيرة ، التي لم تتح له وقتا ليجلس مع أولاده بشكل جيد ، أو يؤدي واجباته الاجتماعية ، أو حتى يختلي بنفسه ، أنه دائمًا يشكو ضيق الوقت ، ويضطر إلى تقديم اعتذارات متواصلة لتقصيره الشديد في أداء الواجبات الاجتماعية والإنسانية ، والرحمية ، ظهير هذا الاسم الذي ليس بوسع أحد من سكان هذه المدينة أن يضع تقيما له ، حتى أولاده يعترفون فيما بينهم ، عدم استطاعتهم وضع تقييم مناسب لأبيهم .
لا أحد يستطيع التقييم :
أحيانا يجدون مبالغ ضخمة ، في دفاتر حساباته المصرفية ، وأحيانا يطرق الدائنون الباب ويفتح لهم ، يأبى أن يرد حتى على هواتفهم المتواصلة في شتى الأوقات ، من الليل والنهار ، أحيانا يمضي شهرين في البيت لا يرى فيهما وجه الشارع ، وأحيانا يغيب عن البيت ثلاثة شهور ، دون أن يروه ، أو حتى يسمعوا صوته في الهاتف ليعرفوا مكانه ، أحيانًا يتردد في أوساط الناس .
بأنه رجل مشكوك فيه وله صلات مريبة ببعض الأوساط الخارجية ، وهو لذلك كثير لسفر لخارج البلاد ، وأحيانًا يتردد بأنه رجل وطني نبيل ، وهو الذي كان عضوًا في البرلمان ، في إحدى دوراته السابقة .
أحيانًا يقال أنه رجل متدين يعرف ربه جيدً ، وأحيانًا يقال بأنه رجل ملحد ، أحيانًا يقال أنه رجل أخلاقي ، وأحيانًا يقال أنه فاجر ، أنا عندما يشاع نبأ قرب تشكيل حكومة جديدة ، يتوقع البعض بأنه بعد الانتهاء من تشكيل هذه الحكومة ، سوف يلقى في غياهب السجون .
رحلة التغيير:
فقط منذ ستة شهور ، أخذ كل شيء يتغير بالنسبة إليه ، أبواب جديدة بدأت تنفتح أمامه ، روائح جديدة بدأ يستنشقها ، أفكار جديدة أخذت تجد طريقها إلى مخيلته ، كان عائدًا كعادته من خارج البلاد ، بعد غياب شهرين ، اتجه من المطار إلى كراج البرلمانات عائدًا إلى مدينته ومحملاً ببعض الهدايا النفيسة لزوجته وأولاده .
وفي منتصف الطريق أمام احدى محطات الاستراحة ، توقف البولمان ليأخذ الركاب قسطًا من الراحة ، نزل بتؤدة دون رغبة عميقة في النزول ، تأمل الطريق وبعض الأشجار ، المتناثرة قرب الاستراحة ، مشي بعض خطوات في فسحة الاستراحة ، ثم ما لبث ان اتجه إلى الداخل وجلس على الكرسي .
تخلف وطلب المساعدة :
بعد دقائق أحس برغبة ضعيفة لتناول فنجان من القهوة ، طلب ذلك من العامل ، تلذذ في احتساء القهوة حتى بان له قاع الفنجان ، عند ذاك ولدى شعوره بانتهاء الاستراحة ، ودنو بعض الركاب من باب البرلمان ، اتجه إلى المرحاض بخطوات شبه متصارعة ، ولا يدري كيف تأخر به الوقت ، بعض الشيء فخرج متجهًا صوب الباص الذي كان قد تحرك للتو ومضي في الطريق .
في تلك الهنيهة العاجلة ، رأى سيارة صغيرة تتقدم من الاستراحة فأشار للسائق بشبة عجلة ، وطلب أن يلحقه بالباص الذي تركه ، ولم تكن ثمة مشكلة لولا أن ترك فيه هدايا ثمينة ، استجاب الرجل لمطلبه وغدا يقود بسرعة شديدة ليلحق بالباص .
الحادث الأليم :
لم يتبادلا كلمة واحدة ، كانت أنظارهما متجهة نحو الأمام بحثًا عن الباص ، بعد قليل قال الرجل وكأنه وقع على مفاجأة غير متوقعة : ها هو الباص ! ابتسم ظهير قائلاً : أسرع قليلاً وأعطه اشارة للوقوف ، في أثناء ذلك مالت السيارة إلى الطريق الترابي وانقلبت .
تأثير الحادث على صحة ظهير :
أمضى ظهير عشرة أيام في غيبوبة ، ليصحو ويرى نفسه في المشفى ، بعد شهرين من العلاج والمكوث في المشفى أذن له الأطباء بالخروج ، فخرج واتجه على الفور إلى خارج البلاد ليلتقي تكملة للعلاج لمدة شهرين ، ويعود قائلاً لأهله بأنه لم يعد يسمع بأذنيه ، وأنه بات يسمع الأصوات من خلال عينيه ، فهو عندما يغلق عينيه لا يسمع شيء البتة ، وعندما يفتحها تتناهى له الأصوات ، وبالنسبة لعموده الفقري فقد نصحه الأطباء في الخارج أن يمضي نحو ثلاثة شهور على ظهره ، دون حراك .
معرفة الحقائق :
ستة شهور كانت من أكثر شهور حياته انفتاحًا على الحقائق الكبرى ، يراوده احساس بأنه عاد إلى ذاته ، عاد إلى دفء الحياة ، عاد إلى الناس ، ليجلس مع أولاده ومع زوجته ومع أقربائه .
زهور المرض :
بعد نحو ثلاثة شهورمن تماثله للشفاء ، بدأت ظاهرة غريبة تقع على فقراء المدينة ، فبين يوم وآخر ينهض أهل بيت ما من البيوت المعروفة بالفقر ، ليروا حزمة من النقود تم قذفها إلى بيتهم من خلال إحدى المنافذ !