يُحكى أنه في أحد الأيام طلع الملك على سطح قصره ، يرقب المنظر من الأعلى فحانت منه التفاته على سطح مجاور، فرأى امرأة كأنها البدر في تمامه ، فسأل بعض جواريه عن كنيتها ، فقالوا أنها امرأة غلامه الأمين فيروز .
فنزل الملك وقد وقعت منه موقع الإعجاب وشغف بها حبًا ، واستدعى خادمه فيروز وأرسله ليقضي له حاجه حيث أرسل معه كتاب يوصله لبلدة مجاورة ، وطلب منه أن ينتظر ليأتي له بالجواب ، فأخذ فيروز الكتاب وتوجه إلى بيته ، ووضع الكتاب تحت رأسه وبات ليلته ، فلما طلع الصباح ودع زوجته وسار في طريقه لينفذ طلب الملك ، ولم يعلم بما كان يدبره له .
أما الملك فتوجه إلى بيت فيروز متخفيًا بمجرد رحيله ، وقرع الباب قرعًا خفيفًا ففتحت له الباب زوجة فيروز ، وسألته عن هويته وماذا يريد ؟ فقال لها الملك : أنا الملك سيد زوجك ، فلما جلس قالت له : أرى مولانا اليوم عندنا فما الخطب ؟
قال الملك : جئتكم زائر ، فقالت الزوجة : أعوذ بالله من هذه الزيارة ، والله ما أظن فيها خيرًا ، فقال الملك بغضب : ويحك يا امرأة أظنك ما عرفتني حق المعرفة فأنا الملك ، فقالت : بل عرفتك يا مولاي ، وعلمت أنك الملك ولكن سبقك الأوائل حينما قالوا:
سأترك ماءكم من غير ورد . . . وذاك لكثرة الوراد فيه
إذا سقط الذباب على طعام . . . رفعت يدي ونفسي تشتهيه
وتجتنب الأسود ورود ماء . . . إذا كان الكلاب ولغن فيه
ويرتجع الكريم خميص بطن . . . ولا يرضى مساهمة السفيه
وما كذب الشاعر حين قال :
قل للذي شفه الغرام بنا . . . وصاحب الغدر غير مصحوب
والله لا قال قائل أبدا . . . قد أكل الليث فضلة الذيب
ثم استرسلت في حديثها وهي تنظر للملك قائلة : أيها الملك تأتي إلى موضع كلبك تشرب منه ! ، فاستحى الملك من كلامها وخرج من دارها مسرعًا فنسى نعله ، وبينما كان فيروز ماضٍ في طريقه تفقد موضع الكتاب فلم يجده ، فتذكر أنه نساه في بيته فعاد عقب خروج الملك من داره .
ولما دخل فيروز رأى نعلي الملك ، فطار عقله وعلم أن الملك لم يرسله لتلك السفرة إلا لغرض في نفسه ، فسكت وكتم الأمر في نفسه وأخذ الكتاب من محل نومه ، وسافر يلبي حاجة الملك ، ولما عاد أنعم عليه الملك بمائة دينار .
فخرج بهم إلى السوق واشترى بهم ما يليق من ملابس النساء والهدايا ، ولما عاد إلى منزله سلم على زوجته وأعطاها الهدية وقال لها : قومي إلى بيت أهلك ، فقالت الزوجة في تعجب ، ولما ؟
فقال لها : لقد أنعم علينا الملك وأريدك أن تظهرين هذا لأهلك ، فقالت له : حبًا وكرامة ثم قامت على الفور وتوجهت إلى بيت أبيها ، ففرحوا به وبهداياه وأقامت عندهم شهرًا ولما لم يأتي زوجها لأخذها ، توجه إليه أخوها .
وقال له : يا فيروز لما تركت زوجتك ، فلتخبرنا بسبب غضبك أو اختصمناك إلى الملك ، فقال له فيروز : إن شئتم الحكم فلنحتكم فلقد تركتها عن حق ، فطلبوه للحكم فذهب معهم ، وكان القاضي في ذلك الوقت يجلس إلى جانب الملك في قصره .
فقال أخو الزوجة : أعز الله الملك ومولانا قاضي القضاة ، لقد جئت أختصم هذا الرجل الذي أجرت له بستانًا سالم الحيطان ، بأشجار مثمرة وينابيع ماء وافرة ، فأكل من ثماره وخرب ينابيعه وكسر حيطانه .
فقال القاضي لفيروز : ما قولك فيما نسب إليك يا رجل ؟ فقال فيروز : أيها القاضي لقد تسلمت البستان ورددته إليه أحسن مما كان ، فقال القاضي لأخو الصبية ؟ هل سلم إليك البستان كما كان ، قال : نعم ولكني أود معرفة سبب رده .
فالتفت القاضي إلى فيروز وقال له : ما قولك ، فقال فيروز : يا مولانا والله ما رددت البستان كراهة فيه ، ولكني وجدت فيه ذات يومًا أثر لأسد ، فخفت أن يغتالني وتركته إكرامًا لذاك الأسد الذي خرج عن عرينه يرصد بستاني .
وكان الملك يجلس متكئًا حينها ، ففهم مقصد فيروز واعتدل في جلسته قائلًا : يا فيروز عد إلى بستانك هانئ البال أمنًا مطمئنًا ، فوالله ما دخل الأسد إلى بستانك إلا لحظة يسيرة ، لم يمسس فيها ورقة ولا ثمرة ، وما رأيت مثل بستانك في احتراز حيطانه على شجره .
فلما سمع فيروز ذلك الكلام فهم قصد الملك ، وعرف أن زوجته صانته في غيبته ، فرجع فيروز إلى داره ورد زوجته إلى كنفه ، ولم يعلم القاضي ولا غيره بفحوى ذلك الحوار الذي دار بينهم .