ملأت رئتي بأريج الزرع وأنا أنزل من سيارة الأجرة ، أمام المنعطف الذي يؤدي إلى القلعة ، صاحب السيارة اعتذر لي عن عدم ايصالي ، إلى غاية المكان لأن الطرق غير آمن منذ مدة ولأنها أيضا رديئة ، تأملتها من بعيد لن تتغير ، كل شيء كما كان قبل ستة عشر سنة ..

حب وألم :
استوقفتني شجرة الصنوبر التي تحمل اسمين ، نجاة وسليمان ، عيناه مازالتا هنا تسكنان الظل الوارف مغرورقتان بالدموع ، لماذا نحن مجبرون دائما على تقبل قرارات الكبار ؟ ولماذا نحن مجبرون على اسقاط أمانينا على الأرض لأن أمنياتهم تعانق السماء ؟ ، سأكتب لك الليله ، سأحترق بين سطورك .

لأن الكلمات لن تمنحني دفء يديك ، دعني أستبدل يديك بيدي ، لنغمض أعيننا ، ونتضرع إلى الله ، بكل ما نملكه من حب في قلوبنا ، ليحقق المعجزة ، بكيت واحتضنت الصنوبر البائس ، وشعرت بفروعه تحتضنني برفق ، رفعت عيني الى الجزع المحفور منذ سنين ، وسألته هل سأجد سليمان في القلعة أمام المسجد العتيق الكائن أمام منزلي ، ينتظر عودتي ، يسترق النظر إليّ ، يبتسم حين أنظر إليه ثم يمضي .

ذكريات:
هاجمتني الذكريات كثيفة كغيوم يناير الحزينة ، جعلتني لا أنتبه أن أثر الطريق المعبدة قد اختفى ، وأن الأعشاب والأشواك قد ملأت كل الدروب ، كانت شرسة تنهال عليّ بلسعات من الحين للآخر ، غيمة الذكريات بدأت تنقشع عن مخاوف تسربت سريعاً إلى قلبي ، أما يزال في قلعتي بشر؟ هل ما يزال في قلبي سليمان ؟ في كل مخاوفي كانت صورته تنبض بالحنان نفسه ، إنه هناك حتما هناك .

لكن الخوف بدأ ينقض عليّ كوحش كاسر يفترس الصور بنهم ، وبدت لي الطريق إلى القلعة وحشاً متسربلاً  بالجراح ، وشعرت بوجود أشخاص يهددونني في كل لحظة ، وبملامح سليمان التي كانت تغطي صفحة الأديم .

القدر :
سائق السيارة الأجرة ، قال لي أن الطريق غير آمن ، ماذا كان يقصد بغير آمن ؟؟ وثب عملاق أمامي فجأة ولحقه آخر ، كلاهما ملثم وفي يده سلاح !! ماذا تريدون ؟ كمموا فمي ، وأصر أحدهما على توجيه فوهة سلاحه قريبًا من فمي وأمرني بالتحرك .

حدثاني بخشونة وخبروني أنه لابد أن أمثل أمام رئيسهم أولاً ، ثم ينظر في أمري ، قلعتي ماتت إذن ، ومات كل الأحبة ، وسوف أموت على أيدي قطاع الطريق هؤلاء ، وأدفن هنا هل كان قدري قطع آلاف الأميال لأموت هنا لا غير ؟

لقاء طال انتظاره :
تمرمغت في هواجسي المشبعة برائحة الموت ، حتى دخلت القلعة ، لمحت في الساحة الكبيرة ، خيال رجل وصلتني أنفاسه بسرعة البرق ، اختلطت كل المشاعر في داخلي ، تفجرت كبركان خمد منذ دهور ، احتوتنا عاصفة هبت من جوف الأرض ، اقترب أكثر ثم أكثر ،غضت في خضرة عينيه وخاطبته بصمتي المذبوح : أنت !!… فك الرباط الذي يكمكم فمي ، كان صوته يصلني من أعماق أعماقه : عدت … نعم عدت للقائك ..

تمثال القلعة :
سكت ، زم شفتيه ، رفع عينيه إلى السماء ، أغرقني في صمته حتى كدت أختنق ، وأنا أتطلع إليه بكل شوق السنين : تكلم لماذا أنت صامت ، يعد كل هذه السنين أي البدايات ، ستذيب غربتنا ؟ نحن لم نغترب عن بعض الأيام صنعت غربتنا ، أخطأ إذن ؟ ليس كثيراً ، صرت قاطع طريق .

ضحكات مؤلمة :
قهقه طويلاً ، وقهقهت القلعة ، ودوى الماضي في كل أركان جسدي ، منشطراً في تلك الساحة المهجورة كجثة مازالت الحرارة تنبعث فيها ، نظر إليّ مرة أخرى واستطرد : قانوني هو الساري هنا …. قلت : لكنك قتلت القلعة .

أجاب : هي انتحرت بعد ذهابك ، ولماذا تنتحر القلعة من أجلي ، وأنا كنت أعيش ملء جوارحي بأمل مجنون ؟… أخطأت إذن ؟.. أخطأت !! .. أنا كاتبة حكايات أحلم وأكتب وأبيع كلمات ، أين الخطيئة في هذا ؟

النهاية :
لم يجيبني سكت وهو يمسك بيدي ، أراد أن يزرع الدفء فيهما ، لم يجد في حوزته غير الصقيع ، سحب احدى يديه وأشار إلى ركن تراكمت فيه الجثث ، تراجعت إلى الوراء بخطوة مهزوزة وصرخت.. الموت آخر شيء يمكن أن يروق لكاتبة حكايات حالمة ، إنه مرعب ، وبهذا الشكل لا يمكن أن يعبر سوى عن ضآلة الانسان ، أرغمت نفسي على النظر إلى عينيه مرة أخرى.

اصطدمت بحجرين كالزمرد ، برأس منحوه بدقة ، بجسد سليمان لكن من حجر لمسته ، كان صلباً بارداً ، نظرت حولي ، لم أجد أحدً ، كنت أنا والجثث و..الريح وتمثال سليمان ، أنا وتمثال سليمان في قلعة العمر .

By Lars