وضع عمرو طعامه على شاطئ النهر في المكان الذي يحبه ، وجلس حتى يأكل كان يحلو له الأكل وهو يستمتع باستنشاق الهواء المنعش خاصة في الأيام الحارة التي تمر على مدينة البصرة ، كان الطعام جيد ، فد اشتعل عمرو طوال اليوم في سوق الوراقين ينسخ الكتب ويصححها حتى قبض كثير من الدراهم ، أنفقها كلها من أجل أن يحضر هذا الطعام ، وجلس بجانب النهر ليريح جسده من تعب اليوم كله .
الشيخ الكبير :
ولكن ما أن بسمل عمرو وحاول أن يضع أول لقمة في فمه حتى توقف أمامه شيخ كبير السن وهو يقول في شفقة : يا للفتى المسكين .. هكذا تجلس وحيداً وتتناول طعامك دون أن يؤنسك أحداً .. رفع عمرو وجهه .. كان الشيخ مهيباً تبدو عليه أمارات الاحترام .. فقال له عمرو في تأدب : تفضل معي ..
الجلوس والأكل :
وبسرعة شديدة قفز الشيخ وأصبح جالسًا في مواجهة عمرو والطعام بينهما ، وقال وهو يمصمص شفتيه : صعبت عليّ يا مسكين ، أنا مشفق عليك لأنك مسكين ، تخيل أنك وأنت تأكل وقفت لقمة من الطعام في حلقك .. ماذا كنت ستفعل .. من الذي ينقذك ؟ ، بلع عمرو ريقه عندما تخيل امكانية وقوف اللقمة في حلقه وقال أن سبب وحدته هو : إنني .. إنني لا أتناول غير لقم صغير وأقوم بمضغها مضغاً جيداً .. فهتف الشيخ الكبير قائلًا : خطأ ، أكبر خطأ .. فالإنسان لا يجب أن يضيع وقتاً طويلاً في الأكل .. ويجب عليك أن تكبر اللقمة حتى تستمتع بالأكل ..هكذا !
جشع وخجل :
وقبض الرجل على لقمة كبيرة من الطعام وقطعة كبيرة من اللحم ودسها في فمه ليؤكد صحة كلامه ، وفي ثانية غاب كل شيء داخل جوفه ، وأحس عمرو بالفزع ، ولكن الشيخ توقف عن الأكل .. كأنه فقط كان يريد بهذه التجربة أن يوضح كلماته .. ويسأل عمرو باهتمام وشفقة : ماذا تفعل يا بني ؟..
قال عمرو : إنني أقوم بكل الأعمال تقريبًا .. لكني اليوم كنت أعمل في النسخ في سوق الوراقين … ، قال الأعرابي : آه .. هذا هو إذن سبب جحوظ عينيك ، كنت أظنهما أنهما جاحظتان لأنني .. لأنني فقط تذوقت القليل من طعامك ..
فأحس عمرو بالخجل من نفسه فهتف يقول للأعرابي : كلا كلا يا سيدي .. أقسم أنني سعيد بجلوسك معي .. ، ولكن الأعرابي قال في جدية : دعني أتأكد ، ومد يده في حركة سريعة ونزع لقمة أكبر من الأولى وقطعة لحم أكبر دسها في فمه ، ولم يمضغ ثانية حتى انزلق كل شيء داخل جوفه ، وربت الأعرابي على بطنه وهو يقول : لقد ظلمتك يا فتى .. ان جحوظ عينيك ليست له أي صلة بي الآن فقط قد تأكدت ..
التوجس خيفة :
وحسب عمرو ان هذه سوف تكون اللقمة الأخيرة ، ولكنه ظل متوجسًا من هجوم الشيخ التالي على الطعام ، وقال الشيخ وهو يحرك لسانه خلف فمه : من أين اشتريت هذا الخبز واللحم ؟
قال عمرو وهو متأكد أن الشيخ يقوده لفخ جديد : من الحاتي الموجود في أول السوق ، قال الشيخ في ثقة : كلا.. كلا.. أنا متأكد من طعم اللحم ، إنه من الحاتي الموجود بجانب النهر ، فقال عمرو لينهي الموضوع : على أي حال .. فكل اللحم متشابه ، ولكن الشيخ قال في تصميم : كلًا كل واحد وله مذاق خاص .. وأنا أفرق جيدًا بين الأنواع المختلفة ، يجب أن أتأكد بنفسي ..
الاستمرار في الجشع :
وقطع الشيخ نصف الرغيف في مرة واحدة ووضع فيه قطعتين من اللحم ، ودس هذه الكتلة الضخمة في سهولة داخل فمه الواسع وحرك شدقيه فانزلقت وغابت ولم يبد عليه أنه التهم شيء .
ولكنه رفع اصبعه مؤكداً للفتى : أنت على حق يا فتي ..أنها فعلا من الحاتي الموجود في السوق .. وتمنى عمرو أن تكون هي اللقمة الأخيرة فلم يعد باقيًا من الأكل إلا القليل جداً ومازال النهار طويلاً أمام عمرو ، وسكت الرجل قليلاً ولكن قبل أن يتناول عمرو أي لقمة هتف به الشيخ : ولكن لماذا تقطب وجهك هكذا ؟
أرجع عمرو اللقمة التي كانت في يده وقال : أقطب وجهي ؟.. قال الشيخ : نعم .. هل أنت حزين لأنني جالستك ؟.. أجاب عمرو على الفور : لا لست حزين لقد خلقت ووجهي هكذا ..قال الأعرابي : هل أنت حزين لأنني تناولت القليل من طعامك ؟.. أجاب عمرو : لا أنا سعيد جداً .. وها أنا أبتسم ، وحاول عمرو أن يبتسم ابتسامة كبيرة لعله ينقذ باقي الطعام ، ولكن الشيخ لم يبالي بهذه الابتسامة الساطعة وهتف : دعني تأكد ..
لعنة مشاركة الطعام :
وقبض على قطعة كبيرة جعلت عمرو يصرخ بألم ، وهتف الشيخ وفمه مملوء بالطعام : أرأيت .. أرأيت ..أنت متألم لأنني تذوقت طعامك ، وقال عمرو وهو يكاد يبكي : أنت لم تتذوقه ، لقد التهمته كله ، وبلع الرجل الطعام وأصبح فمه فارغاً .
وقال لعمرو في تأكيد : لقد خدمتك ، صدقني ، لو تناولت هذا الطعام فسوف يصاب جسدك بالسمنة ، ويصاب عقلك بالبلادة ، صدقني .. أنت ما تزال صغيراً ويبقى أن تبقى نشيطاً هكذا ، ولكن عمرو كان يشعر بالحزن الشديد : ولكن التهمت طعام يومي كله ، وسوف أتضور جوعاً بقية اليوم ، .. وقال الأعرابي : وماذا في ذلك ، إنها صحة ، ولا تنسى لا تنسى ..يا فتي أنك أنت الذي طلبت مني مشاركتك الطعام ..
غضب :
قال عمرو : كانت مجاملة ، قال الأعرابي : ولقد جاملتك ، وعطلت نفسي لكي أجلس معك ، وأوانسك فيكون هذا جزاتي تتهمني بالتهام طعامك وأنا لم أتناول إلا بضع لقيمات فقط لأتأكد من كلامك .. ونهض الشيخ غاضباً واقفاً كأن عمرو هو المخطئ في حقه ولوح بيده ، وهو يقول : ماذا أفعل الآن ، لقد أفسدت عليّ غذائي ، لقد تأخرت بسببك والله ، وانصرف الرجل غاضباً ، وترك عمرو أمام بقايا الطعام الذي كان .
بعد مرور السنوات :
كبر عمرو ، ونسيّ الناس اسمه الحقيقي ، عمرو بن بحر ، ولم يتذكروا إلا عينيه الجاحظتين فأطلقوا عليه الجاحظ ، وعرف به هكذا حتى يومنا هذا ، ولم ينسى عمرو هذا الشيخ الذي التهم طعامه ، لم ينسى هذا الصنف من الناس الذي يفرض نفسه على الآخرين فيأكلون طعامه ويلبسونهم مالهم في حين يبخلون بهذه الأشياء حتى على أنفسهم .
من كتاب البخلاء للجاحظ :
فأخذ يتتبع أخبارهم ، ويعرف نوادرهم وكتب عنهم أشهر كتبه ، بل أشهر كتاب باللغة العربية وهو كتاب البخلاء ، لقد لفتت هذه الحادثة نظر الجاحظ إلى الطبائع البشرية .. والصفات المختلفة بما فيها من بخل وكرم ، وشجاعة وخوف .