تلك القصة حقيقية وقعت مع الشيخ عباس بتاوي مغسل الأموات ، وفيها من العبر والعظات ما يجعلنا ندرك قيمة الأصدقاء في حياتنا ، وقد بدأت أحداث تلك القصة حينما تم استدعاء الشيخ في إحدى المحاضرات للحديث عن الغسل والتكفين ، وقد كلفت من قبل الجامعة بتنظيم المحاضرة ، فكنت أستقبل الأسئلة وأقرأها لأعرضها على فضيلة الشيخ .
وبينما أنا أقوم بعملي وصلت إلى يدي ورقة صغيرة كتبت بخط مبهم ، لم أتمكن من قراءته سوى بصعوبة بالغة ، وكان بالورقة طلب حيث كتب فيها فضيلة الشيخ هل لديك قصة عن إخوان أو أصدقاء ، لم ما أفهم ماذا يقصد السائل بذلك خاصة أن موضوع المحاضرة كان الغسل ، وقررت ألا أعطي الورقة الشيخ بسبب سوء الخط والابتعاد عن فحوى المحاضرة .
وبعد أن قاربت المحاضرة على الانتهاء أذن المؤذن للصلاة ، فتوقفت المحاضرة وبعدها عاد الشيخ يشرح للحاضرين الطريقة التي يتم بها غسل وتكفين الميت عمليًا ، ولما قارب الشيخ على الانتهاء أعطيته بعض الأوراق ومن ضمنها تلك الورقة ، لأنني ظننت أن المحاضرة قد انتهت .
ولكن بعض الحضور طلبوا من الشيخ الرد على أسئلتهم ، فعاد يتحدث وهم يستمعون ، مر السؤال الأول فالثاني فالثالث حتى استوقفني ذلك السؤال المبهم بتلك الورقة ، توقعت أن الشيخ لن يجيب لأن لا علاقة للسؤال بموضوع المحاضرة ، ولكن الشيخ الجليل صمت لحظة وبصوت ملؤه التأثر بدأ يتحدث .
وقال : في يوم من الأيام جاءتني جنازة لشاب لم يبلغ الأربعين من عمره ، وكان معه كثير من الشباب أقاربه يلتفون حوله ويودعونه بأنات ودموع ، ولكن لفت انتباهي شاب في مثل سنه يبكي بحرقة ، أخذ يشاركني الغسل وهو يبكي بغزارة ونشيج بكاءه لا ينقطع ، كنت أصبره كل لحظة وأذكره بعظيم الأجر والثواب في الصبر على المصائب .
ولكنه كان بين البكاء وترديد كلمة إنا لله وإنا إليه راجعون ولا حول ولا قوة إلا بالله ، كان بكاؤه يزداد وكنت أفقد معه تركيزي ، فقلت له : إن الله أرحم بأخيك منك وعليك بالصبر يا رجل ، فالتفت نحوي بدموعه المتدفقة وقال لي : إنه ليس أخي اندهشت وألجمتني المفاجأة ، مع كل هذا البكاء والنحيب وليس أخيك ؟
فقال الشاب : نعم ليس أخي ولكنه والله كان أغلى وأعز علي من أخي ، لقد كانت صديق طفولتي وزميل دراستي ، كنا نجلس معًا بصف واحد ، ونلعب في ساحة واحدة ، كبرنا وكبرت بيننا العلاقة ، أصبحنا لا نفترق إلا لوقت قصير ثم نجتمع من جديد ، تخرجنا سويًا من المرحلة الثانوية ، وبعدها التحقنا بنفس الجامعة ، حتى العمل يا شيخ التحقنا بعمل واحد .
كما تزوجنا أختين وسكنا في شقتين متقابلتين ، رزقني الله ولدًا وبنتًا ورزقه أيضًا ببنتٍ وولدٍ ، تشاركنا أفراحنا وأحزاننا معًا ، اشتركنا سويًا في المأكل والمشرب ، حتى السيارة يا شيخ تشاركناها سويًا ، كنا نذهب معًا ونعود معًا وبعدها أجهش الشاب بالبكاء ، ولم يستطيع مقاومة مشاعره وقال والدمع يغرق وجنتيه : يا شيخ هل يوجد في الدنيا أحدٌ مثلنا؟
فتذكرت أخي البعيد وقلت لا والله لا يوجد من هو مثلكما ، وأخذت أذكر الله مسبحًا وأبكي بحرقة رثاءً لحاله ، وبعد أن انتهيت من الغسل أقبل الشاب يقبل صديقة وهو يكاد ينشق من البكاء ، حتى ظننت في لحظة ما أنه سيرحل معه ، وتحت ضغط أمسكه الحاضرون وأخرجوه كي نصلي على الميت.
وبعد الصلاة اتجهنا مباشرة إلى المقبرة كي ندفنه ، وكان أقارب الشاب يحيطون به ويصبرونه ، فوالله كأني أمشي في جنازتين جنازة محمولة على الأكتاف ، وجنازة تدب الأرض خلفها دببيبًا ، وعند القبر هدأ الشاب قليلًا وأخذ يدعو لصديقه المتوفى ، وبعد مراسم الدفن انصرف الجميع .
فعدت إلى منزلي متأثرًا وبي من الحزن ما يثقل كاهلي ، وفي اليوم التالي وبعد صلاة العصر حضرت جنازة لشاب أظن أني أعرفه ، فوجهه لم يكن غريبًا عليّ ولكن أين شاهدته لم أتذكر ، فنظرت إلى وجه الأب المكلوم وأدركت أني أعرفه هو الأخر .
نظر إليّ والدمع يتقاطر من عينيه وهو يقول : يا شيخ لقد كان بالأمس مع صديقه ، كان يناولك المقص والكفن ، بالأمس كان يقلب صديقه ويمسك بكفيه وهو الآن مثله ، بالأمس كان صديق طفولته واليوم نبكيه ، ثم انخرط الرجل في بكاء رهيب ، زالت الغشاوة من على عيني ، تذكرته إنه نفس الشاب الذي كان معي يبكي صديقه بالأمس .
سألت والده بصوت مندهش كيف مات ؟ قال : عاد إلى بيته بعد الجنازة وعرضت عليه زوجته الطعام ، فلم يستطيع تناوله وقرر أن ينام ، وعند صلاة العصر دخلت لتوقظه فوجدته ، وهنا صمت الأب وأخذ يمسح سيل الدموع من على خديه ، وأكمل رحمه الله لم يستطيع أن يتحمل الصدمة في وفاة أعز أصدقائه ، وظل يردد إنا لله وإنا إليه راجعون … إنا لله وإنا إليه راجعون .
فقلت له بصوت متثاقل ، وحزن دفين اصبر واحتسب يا شيخ ، سأدعو الله أن يجمعه مع صديقه في الجنة ، يوم ينادي المولى عزوجل : أين المتحابين فيِّ اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي ، وبعدها قمت بتغسيل الشاب وتكفينه ، ثم صلينا عليه المغرب وسرنا بالجنازة صوب القبر ، وهنا كانت المفاجأة فقد كان القبر المجاور لصديقه فارغًا .
فقلت لنفسي هذا أمر غريب ، من الأمس حتى الآن لم تأتِ جنازة واحدة ، لم يحدث هذا أمامي ولم أره من قبل ، فأنزلناه بهدوء في القبر ، ووضعت يدي على الجدار الذي كان يفصل بينه وبين صاحبه وأنا أقول : يا لها من قصة عجيبة ، جمعتهما الحياة صغارًا وكبارًا ، والآن تجمعهما القبور أمواتًا .
وبعدها خرجت من القبر وأنا أدعو لهما بالرحمة والمغفرة ، ومسحت دمعة جرت على خدي لم أستطع مغالبتها ، ثم انطلقت أعزي أقاربهما ، وهنا انتهى الشيخ من حديثه وأنا مندهش مما سمعت وقلت في نفسي سبحان الله ، وحمدت الله على أن تلك الورقة وصلت ليد الشيخ .
وسمعت منه بفضلها تلك القصة العجيبة ، التي والله لو حدثني بها أحد من أصدقائي لظننت أنه يبالغ ، ولكني عرفت قيمة الصداقة وأثر الصديق ، فأخذت أدعو لهما بالرحمة والمغفرة راجيًا من الله عزوجل أن يحسن ختامي وختام المسلمين جميعًا .