إن المشكلات المجتمعية تسكن كل أركان العالم بمختلف أنواعها وأشكالها ونتائجها وأسبابها ، دائمًا ما يوجد داخل تلك الخلافات طرفان متنازعان ولكل طرف حجته وأسبابه ، وهناك من المشكلات ما هو بسيط فيمر مَرْ الكرام ؛ وهناك ما هو مُعقد قد ينتهي بكارثة اجتماعية تضاف إلى مُجمل الكوارث الموجودة في الواقع ، وقد يكون المتنازعان زوجين أو شقيقين أو صديقين ؛ وغير هؤلاء من الكثيرين الذي يتشاحنون على بعض الأمور ؛ ولكن حينما يكون الخلاف بين أب وابنه ؛ يبدو الأمر صعبًا بعض الشيء .
اشتكى شاب يبلغ من العمر سبعة وعشرين عامًا من قسوة أبيه ؛ الذي تركه منذ أعوام يسكن وحيدًا في حجرة ضيقة كئيبة مليئة بالحزن الذي يحمله في قلبه ؛ حيث قال أن والده كان دائم العصبية والقسوة عليه وعلى والدته ؛ وقام بطرده وهو في العاشرة من عمره ؛ وتعاطف معه أحد أقاربه الذي منحه تلك الحجرة وتكفل بمصاريفه .
تدخلت بعض العائلات في محاولة للصلح بين الأب وابنه ؛ ووافق الأب على عودته بعد عدة أعوام إلى المنزل ، وعبرّ الابن عن أنه كان سعيدًا بذلك الموقف الذي ظن أنه سينهي أي خلاف سابق ؛ وأنه سيعيش حياة طبيعية مثل باقي أقرانه ؛ غير إن والده طرده مرة أخرى بعد فترة قصيرة ؛ وعاد الابن إلى مصيره الحزين الأليم بنفس الغرفة التي ظللت عليه لأعوام سابقة .
أعرب الابن عن أسفه لأنه يعاني من البطالة ؛ ولا يوجد لديه أي مصدر للدخل سوى صدقات المحسنين ؛ كما قال أنه لجأ إلى الضمان الاجتماعي بتقديم طلب لكفالته ؛ ولكنهم رفضوا تسجيل اسمه لأنه لا يملك الأحقية في الحصول على معونة شهرية .
وعلى الجانب الآخر قام الأب بنفي كل كلام ابنه ؛ حيث قال أنه ترك البيت بإرادته ؛ وأكد أنه لم يستخدم العنف مع والدته أو معه ؛ بل كان سبب خلافه مع ابنه أنه يضرب شقيقاته الصغار على وجهوهن بلا سبب ؛ وذلك ما أدى إلى المشاحنة بينهما .
قال الأب أيضًا أن ابنه أخبره أنه لا يريد العيش معه ؛ ولم يعترض الأب الذي أكد أنه قد طلقّ والدته ؛ وتركه يخرج فريسة لظروف الحياة القاسية ، وأكد الأب أنه وافق على عودة ابنه مرة أخرى إلى المنزل بعد عدة أعوام ؛ غير أن الابن عاد لتصرفاته الشنيعة مع أخواته ؛ وذلك ما لم يقبله الأب .
صرّح الأب أيضًا أن ابنه رفض بكامل إرادته الالتحاق بالتعليم ؛ كما أنه حاول أن يُجبره على العودة ليستخرج له بطاقة الأحوال المدنية ؛ ولكن الابن رفض ؛ وفي نهاية الأمر أوضح الأب أن ذلك الشاب هو ابنه الذي لن يستطيع أن يتخلى عنه ؛ كما أكد أن بيته مفتوح إليه في أي وقت يقرر فيه العودة .
اختلفت روايتي الابن والأب ؛ ومن الواضح أن هناك خلل تربوي واجتماعي أدى بالطرفين إلى إصدار الأحكام والاتهامات ؛ حيث أن دور الأب لا يقتصر على كونه اسمًا ينتسب إليه الأبناء ؛ ولكن دوره عظيمًا فهو راعي ومسئول عن رعيته ؛ وكان من الضروري ألا يترك ابنه فريسة للبطالة والاكتئاب واللجوء إلى مد يده ؛ كان يجب على الأب أن يتحلى بالصبر على أخطاء ابنه حتى يصل به إلى بر الأمان .
وقعا الأب وابنه في أخطاء هائلة ، لم يُقدر الابن أنه مُلزم بعدم عقوق الوالدين مهما كانت الأسباب والظروف ؛ ولم يقدم الأب لابنه يد العون وتركه غريقًا في بحر همومه ؛ مما جعل الطرفان يمضيان بإلقاء الاتهامات على بعضهما البعض ، وهذا قمة الخلل الوجودي ؛ حيث أنه من المفترض أن الأب هو سكن الابن ؛ والابن هو ثمرة الأب ، ولكن مع ظروف الحياة التي جعلت من الغضب والعصبية أسلوبًا حياتيًا ؛ أدت إلى حدوث النزاعات بين الأب وابنه .