لم أتحمس للبقاء كثيرًا ، ولا رغبت في العودة ، أستطيع القول بأن اقامتي كانت ممتعة ومفيدة على أكثر من مستوى شخصي ، لقد تمكنت من اتخاذ مجموعة من القرارات المهمة ، أشعر أنني صرت شبه جاهزة لتنفيذها ومنها : أن أكون أنا ، أن أهتم بنفسي فقط ، على الأقل فترة الستة أشهر المقبلة ، بناء حديقة سرية خاصة بي ، أدفن فيها أموري الشخصية .
ذكريات :
اعتقدت لوهلة أن مدونتي هي هذه الحديقة ، قبل أن أكتشف أن نادر قد اقتحمها ، قرأها من ألفها إلي يائها في غيابي ، ثم أصيب بنوبة غيرة قاتلة ، عندما قرأ أحد النصوص ، أنا الآن في قمة نرفزتي ، تعود بي الذاكرة إلى البيت الصغير المتواضع ، الذي كبرت ونشأت فيه ، كان صغيرًا لدرجة لا يحتمل الأسرار معها ، كنت احلم حينها بامتلاك درج صغير أضع فيه أشيائي الصغيرة وأقفل عليها بمفتاح لم أحصل عليه يوماً .
البيت القديم :
على الرغم من صغر البيت ، كان هناك سماعتا هاتف : واحده في غرفة النوم اليتيمة ، وأخرى في غرفة الجلوس ، كنت أعرف أن والدي يتنصت على معظم مكالماتي التي كنت أجريها أيام مراهقتي ، في ساعة قيلولته ، علماً بأنه لم يكن يعمل لصالح المخابرات ، ولا أنا كنت العدو .
نصحته مرة بطريقة خاصة ، أن يرفع السماعة الأخرى بهدوء شديد ، لكي لا أنتبه لفعلته فابتسم اجتاحنا جميعاً ، يريد أن يعرف الشاردة والواردة دائماً ، وكان الكذب من سابع المستحيلات ، فتعلمت ، على الرغم من ذلك ، أن أصدق كذباتي ، فتخرج مقنعة مئة في المئة .
والدي :
لا أنسى ذلك اليوم الذي استسلم فيه نيابة عني رسالة بعث فيها صديقي ، فتحها قرأ ما لم يعجب خاطره فاتصل بالصبي واشتبك معه على صنوبر بيروت ، عند عودتي الى المنزل ، نلت نصيبي من التعنيف ، مصحوباً بقرار حازم اتخذه أيضاً نيابة عني ، يمنعني من التعامل مع هذا الولد الفلتان ، لم أجرؤ من رعبي ، على اتهامه من التجسس عليّ ، لم استطيع أن أقول له إنه ليس من حقه التدخل فيما لا يعنيه .
الهروب :
في لحظة لم أعد أحتمل كل ذلك ، فهربت من البيت مرة ، وأعادني ابن عمي عندما اكتشفوا المكان الذي لجأت إليه بعد ثلاثة أيام ، لم أكن أريد العودة ، لكن ابن عمي تعهد بأنه لم يسمح له بضربي ، فعدت مكسورة .
بعد مرور السنوات :
يبدو أنني اعتدت في لا وعي على هذا النمط من العيش ، حتى بعدما سافرت وعشت استقلاليتي التامة ، لم أنعم يوماً بأشياء سرية أو بحياة خاصة ، كل شيء عام ، كل شيء مباح ، أصل في هذه اللحظة إلي أقصى درجات النرفزة ، وقفت منذ قليل أمام رفوف مكتبتي التي تم ترتيبها في غيابي ، لا أعرف لماذا أحسست بأنها تنقص كتابًا ، فسألت أحد نزلاء البيت عما إذا كان قد قرأ كتاب العطر ، لباتريك زو سكيند ، وقبل أن يجيب أعلن نادر أنه قد أعاره لأحد زوارنا اليوم ..
انفعال :
صدقت حاسة شمي ، فجن جنوني ، ورحت أزعق بأعلى صوتي : هذه مكتبتي ، هذا كتابي ولقد سمحت لنفسك بتسليف كتابي من دون علمي ، هناك من امتدت يده ، صباح اليوم لحقيبة يدي باحثاً عن أوراق مهمة ، جلبتها معي من باريس ، وأخفاها حرصاً عليّ كما يقول ، كنت قد فتحت الحقيبة بثقة ، لأخفي الوثائق في مكان أمين ، فلم أجدها شعرت بالبرودة تسري في جسمي ، أتكون قد وقعت مني في المطار ، أين هي ؟ أنا متأكدة أنني وضعتها في الحقيبة ، اكتشفت الفعلة وجن جنوني !! ..
كل شيء مباح :
لا ألقي باللوم على أحد ، لأنني المسئولة الوحيدة عن اقتحام الآخرين لأغراضي ، يصعب على الآخرين الذين اعتادوا تساهلي في هذه الأمور ، تغيير نمط سلوكهم في يوم واحد ، سيحتاجون إلى أكثر من نوبة جنون ليعوا مدى جديتي ، مدى التغيير الذي أصابني ، أنا الآن في قمة النرفزة ، ولا أريد شيئاً سوى أن يحلوا عني ، انتهى عصر المباح .