ثمة وحشة وانكسار وفقد مرير ، صبر فاق صبر أيوب ، هكذا فكر وهو يخطو على الدرب الطويل ، كان يسرع الخطى وهو يسمع مؤذن الجامع الكبير يعلن أن الجنازة بعد صلاة العصر ، فكر وهو يمشي كابيًا صموتًا ، ناحية الجامع الكبير ، إنه كان في حسابه أن يخطف رجليه ، وهو في طريقه إلى أخته أم سالم المحطة الثانية ، أن يسير على هذا الدرب للزيارة كما تعود في كل مرة يرجع فيها إلى قريته .

يقف هناك بعض الوقت ، يتزود بالدفء ، وتعود إليه روحه التي تسكن معها هناك بعيدًا بعيدًا من الحسابات ذات الأوقات المحددة الكاشفة عن ضيق الوقت ، فإن كوب الشاي عند أخته أم هشام ينتظره ، فهي باتت المحطة الأولى للثرثرة ، مع رشفات الشاي التي تحكى له عما يجب أن يعرفه ، أو لا يعرفه .

خطا بقدميه المبللتين بماء الوضوء إلى صحن الجامع ليواجه ذلك النعش الذي يطارده دوما باختطاف الأحبه ، فأدرك حتمية المواجهة ، رفع سبابته اليمنى نطق الشهادتين ، تراجع خطوتين ليصلي ركعتي تحية المسجد ، خطى بقدميه عتبة الجامع ، ليقابل الأنفاق الساخنة والحزينة ، والعيون القلقة ، الأيدي تتنافس على حمل الأمانة .

أخذ نصيبه من حمل النعش ثلاث مرات ، يمشي ين الناس المهرولة ينظر للسماء ، وساعة يده مرة أخرى ويقول في نفسه وهو يفكر كيف يقلب الله هذه الدنيا ! ، يتدارك الوقت ، الشمس تنحني للمغيب ، تدمع العيون ، تتعانق الأجساد قبل التفرق .

يخطو ناحية دربها بخطوات واهنة ، لم يكد ينتهي من قراءة الفاتحة حتى واقف أمامها ، يواجه الصبار التي طالت مثل شجرة ، هي التي زرعتها روتها ، وأوصتها بنقلها أمام بيتها الأخير ، في الشقة كانت عيناه معلقتين على نتيجة الحائط لم يعد قادرًا على حساب كر وفر الأيام .

يسأل نفسه في كل زيارة لها ، متى تتوقف يده عن قطف الأيام فوق نتيجة الحائط حتى يراها ثانية ! ، في كل مرة يدخل الشقة ، يشم رائحتها ، رائحة طعامها الخارج من حلق فرن الخبيز ، صينية البطاطا باللحم ، والرز المعمر ، والخبز الطري المعجون باللبن الرايب.

بالتأكيد سوف يتمدد على السجادة الحمراء ، بجوارها قليلًا وهي تهز رأسها ضاحكة ، تردد : آه اتغدى واتمدد ، سيقاوم النوم طويلًا ، حتى يطيل النظر إليها ، ويدها الدافئة تتخلل شعره وهي تؤكد : إيه يا شيب !مستعجل قوي كده ليه ! .

يضحك وهو يزحف ، ليضع رأسه المجهدة فوق رجلها ، يزيح مشاكل العمل وتعب السفر وغلاء الأسعار ، يقفز قلبه فرحًا ، وهي تنحني على جبينه تقبله ، تحتضن رأسه بيدها ، بسرعة يلتقط يدها ، يقبلها طويًلا ، الدمعة الحارة تتأرجح في عينيه ، وهو ينظر إليها معاتبًا ، يود أن يسألها لماذا سمحت للأيام أن تفعل به كل هذا ؟.

فكر دامعًا كيف تجيبه ؟ أكان عليها أن تقيد أطرافه حتى لا يكبر ؟ أن تحتوي رأسه بين يديها ، تضمه إلى صدرها حتى لا تنضجه الشمس ، فيكبر وتطيب رأسه مثل سنبلة قمح ؟ أكان عليه أن تبقيه في حجرها أو إلى جوارها ، ولا تدفع به ناحية درب وجع الرأس الطويل ؟ علمته الكتب وما حفظ سوى بكائيات مجنون ليلى ، ونزق الأدباء على المقاهي ، نرجسيتهم المتضخمة دومًا تشعل رأسه كل صباح وهو يطالع الصحف الساخنة بنار المطابع .

فجأة التفت لنفسه وهو يقف أمامها يسألها ما الحل ! كان عليك ألا تتركيه يحبو خلف الكتاكيت في الباحة ، ثم يجري وراء القطط والكلاب أمام البيت ، نعم كان عليك أن تغلقين البوابة الحديدية ، وتبقيه في حجرك حتى لا تراه الشمس وتطوله الأيام .

By Lars