تلاقت عيونهما في صباح ذلك السبت الباكر من أيارٍ ، عند مسار مزرعة الخيول ، تحت سماء صافية تحكي حكاية الأزهار البنفسجية ، والفراشات التي حلقت حولهما ، كأنها تشعر بسعادة هذا اللقاء .
التدوينة :
دونت ناديا عن ذلك اليوم في دفترها : كثيرة هذه الأسئلة عن الوجود والنضوج والحب ، عن الأمل الذي كان قد تسلل من ثقوب الألم ، إنه يراني جميلة ويدرك نقاء قلبي النقي وتعجبه طريقة كلامي جيداً ، ويشعر بحلاوة روحي وشجاعتي ، في عيونه إجابات عن أسئلة كثيرة ، وفي عيونه كانت أيضًا أسئلة جديدة كتبت ، قبل أن تتركه هناك ، كتبت حبيبات الرمل الأحرف ألف ميم لام ، ورسمت قلبه على جبين الفرس ، نور التي لا ترى ، والتي قال لها عاهد أنها تشبهها ورحلت .
اللقاء الأول :
رأت صورته لأول مرة في نيسان ، ، كان يرتدي قميصاً أزرق ويحتضن بحنان بين يديه طفلة صغيرة عمرها ست سنوات ، أو أقل تشرق ابتسامتها من السعادة ، تشبه والدها كثيراً ، فاض قلبها بالذكريات إذ رأت الصورة ، لها ولأبيها صورة طبق الأصل ، حين كانت في عمر الطفلة ، وأبوها كان يلبس يومها قميصاً أزرق أيضاً ، من يكون هذا الشاب الذي يحتضن الصغيرة بين يديه ويمنع عنها الخوف من العالم ؟ ليس أباها ، إنه عاهد ، قالوا لها فوراً .
تدوينة اللقاء الأول :
دونت في ذلك اليوم بدفترها : بدأت أخاف من غياب والدي في طيات الزمن ومعترك الحياة ، فأنا لم أعد تلك الصغيرة ، وهو يكبر ، لقد فهمت مؤخراً ، أنني لست قطعة منه ، بدأت أخاف أن أخسر دوره الكبير في قلبي ، بأن لا أبقى الصغيرة في عينيه ، إنه الأمل ، إنه المعلم والمساعد والطبيب ، إنه العنوان ، إنه الأمان ، إنه الهدايا تأتي دون مناسبة ، إنه الوقت الذي لي ، الذي كان لي ، أخاف أن يفلت يدي التي يمسكها منذ طفولتي لأسير خطواتي البطيئة والمتعثرة ويبتعد ، دون العودة .
ضحكة ناديا:
ألقى التحية ، ضحكت ضحكتها الساحرة ، فكاد أن يصطدم بسيارته بعمود الكهرباء القريب ، اتصل بها وتحدثا ، الحب طبيعي في الربيع ، الحب أقوى وأعمق من ضحكة ولحظة فرح عابرة ، أسعد من نيسان ومن غيابه ، أشد من الفراق والغروب ، هو منحها معنى آخر للحياة ، من جديد ، هي أضافت أسلوباً جديداً لحياته ، زارت تفكيره المتأمل لساعات ، وأبعدت عنه الملل وأهدته ضحكة سحرته وحيرت مشاعره .
اهتمام :
يبدأ يومه بالسؤال عن حال ناديا عند مطلع النهار ، بعد أن يصحو لتأدية صلاة الفجر ، وقبل أن يركب الخيل في المزرعة ، القريبة من دراه ويظهر اسمه على شاشة هاتفها عند السادسة مساءً بعد عودته من ورشته ، حيث يرمم البيوت التي وضعها الناس في عهدته لتصير كما كانوا يحلمون ، يتصل بها ليسمع صوتها وليبتسم لها في قلبه ، لحظات لهفة وفرح وعفويه وصدق هي تسمع نبضات قلبه الطيب وتطير من السعادة .
تدوينه أخرى :
عنه دونت في دفترها : استغربت اهتمامه بأمور كثيرة ، إنه يحب التأمل ، وكثير من العطف ، فتجده يسأل عن حال الطيور والناس والبحر ، ويبحث في كتاب الله والتاريخ عن الحقيقة ، ويخصص بعضا من وقته ليشرح لي ما قد أجهله ، خلق في حياتي جواً جديداً من التساؤل : كيف يحبنا الله سبحانه وتعالى ؟ ، كيف يمكننا الانكشاف لوجوده قريباً منا ؟ كانت تحب الله دائماً ، لكنها بدأت تشعر به أكثر بوجود عاهد ، الله موجود في كل شعور وفوق كل شعور ، الله يرى قلبها وتفكيرها .
عرض العمل :
هل تعملين معي في مطعمي الجديد ؟ كانت تعرف أن عاهد مقدم على افتتاح مطعم في بلدته ، موسعاً أعماله التجارية ، ارتبكت ، لكن حيرتها كانت قصيرة الأمد ، ستعطيه صورة حقيقية عن وضعها ، غير ضحكتها التي سحرته وشدته إليها ، في محادثة المساء أخبرته عن خطواتها البطيئة المتعثرة ، وعن صعوبة قبولها لأي عمل ترغب فيه ، رغم كل ما أنجزت في أعوامها الستة والعشرين .
حقيقة الوضع :
يسمعها ويقترح عليها عملاً غير النادلة في مطعمه الجديد ، أثارت حياتها فضوله ، وكانت أسئلتها عنه كثيرة ،حكت له بمرح كيف ترافقها صديقتاها العكازتان ، من الصباح حتى المساء وتتنقلان معها بالمواصلات العامة من مكان لآخر ، وكيف أنهت تعليمها الجامعي ، وحققت حلماً آخر من أحلامها ، كان كلام ناديا مزيناً بالجمال وغامراً بالحب ، وكانت تحكي عن حالها وتفرح وتبكي ، سمعها وسأل سؤالاً حزيناً وأخذ صوته بالابتعاد ، حتى اختفى .
لهفة ولقاء:
إنه حزيران موعد افتتاح مطعم عاهد ، لقد أخبرها بموعد الافتتاح ، حين التقيا في آيار ، لكنه لم يذكرها به ، فرحت من أعماق قلبها ، وابتسمت : سألتقي مجدداً به اليوم ، تعطرت ولبست الأسود وعقد لؤلؤ أبيض ، وأخذت عكازتيها وذهبت إليه .
ضحكة الوداع:
دخلت على مهل إلى المطعم ، حيث تجمهر الناس حاملين باقات الورد ومرددين التبريكات والأمنيات ، سمعت صوته يضحك ، وتلفتت نحوه وضحكت له ضحكتها الساحرة ، إلا أنه هرب من الضحكة واختفى في زحام المهنئين ، تركها وسط الزبائن وحيدة مع عكازتيها ، رحل في حزيران لينهي ربيعاً قصيراً ، ولتنتهي طفولتها ، يومها لم تكتب أية كلمة في دفترها ، وكانت الضحكة كلّ الحكاية .