لاشك أن جبر الخواطر وإرضاء الناس غاية كبرى ، لا يدركها إلا كل امرؤ يمتلك قلبًا سليم ، فالله سبحانه وتعالى قسمنا أنواع ، منا الفقير الذي يسعى بكد في الأرض والغني الذي لم يذق طعم الشقى وضيق اليد ، ومن الفقراء من يحمد الله على أي حال ومنهم من ينقم على حاله ، ويتمنى زوال النعمة من غيره .
أما الأغنياء فأنواع ، الغني الشاكر والغني الطماع والغني البخيل وعكسه الكريم ، وقصة اليوم تعطينا درسًا في جبر الخواطر ومساعدة البسطاء ، فيحكي أنه ذات يوم خرج الفيلسوف الحكيم بصحبة تلميذ له وأخذا يتجولان في الصباح بين الحقول الغناء ، وبينما هما على هذا الحال شاهدا فردتي حذاء قديم يبدو عليهما كثرة الاستعمال .
ويبدو أنهما كانا لرجل فقير يعمل بإحدى تلك الحقول القريبة ، التفت التلميذ إلى معلمه الفيلسوف وقال له : ما رأيك أن نلهو قليلًا بأن نأخذ فردتي الحذاء ونخفيهما حتى يجيء صاحبهم ، ونختبئ نحن خلف الشجيرات لنرى مدى حيرته عندما لا يجدهما ، وأي فعل سيفعل ؟
حينها أجاب الفيلسوف قائلًا : ليس من الدين أن نسلى أنفسنا أبدًا على حساب الفقراء فهذا أمر لا يجب فعله ، وبدلًا من هذا لما لا تفكر بتسلية أخرى فأنت تلميذ غنى ، ويمكنك أن تمنح نفسك متعة أكثر من خلال ذلك الرجل الفقير .
هيا ضع عملة معدنية ذهبية في كل فردة من فردتي الحذاء ، وبعد ذلك سنختبئ ونراقب رد فعل الفلاح الفقير ، وكيف سيؤثر فعلك هذا عليه فنفذ التلميذ ما أمره به الفيلسوف الحكيم ، ووضع عفي كل فردة عملة ذهبية ثم ذهبا بعدها واختبأ خلف الشجيرات القريبة من الحقل الذي يعمل به المزارع ، بحيث لا يراهما عند قدومه .
وطفقا الاثنان يرقبان الموقف وينتظران ماذا سيحدث وكيف سيستقبل الرجل قدوم الخير ، وسرعان ما انتهى الفقير من عمله ، وعاد يقطع الحقول إلى المكان الذي ترك فيه فردتي حذائه ومعطفه ، وحينما وصل الرجل الفقير وأخذ في ارتداء معطفه وحذائه ، شعر بشيء غريب داخل فردة الحذاء اليمنى ، فظنه شيئًا من الحصى ومد يده لإخراجه .
لكنه فوجئ بأن ما وجده كان عملة ذهبية نادرًا ما أمسك مثلها ، وبدا الاندهاش والتعجب على سمات وجهه ، وأخذ يحملق في العملة ، ويديرها في يده وهو لا يصدق ما حدث ، وأعاد النظر إليها كثيرًا ثم التفت حوله هنا أو هناك عله يجد صاحبها ، ولكن لم يكن هناك أحدًا ظاهرًا أمامه .
ومن ثم وضع العملة في جيبه وواصل ارتداء الفرده الثانية من الحذاء ، وفى هذه المرة كان شعوره بالاندهاش أكبر بكثير حينما وجد العملة الثانية ، فالأمر لم يكن يبدو أنها سقطت من أحد بطريق الخطأ واستقرت في حذائه ، بل هي هدية أرسلها له الرب ، له تحديدًا .
لذا لم يتمالك الرجل دموعه ، وتغلب عليه شعوره وركع على ركبتيه ، وهو ينظر إلى السماء وابتهل بصوت عال لكي يشكر الله رب العالمين الذي يعلم وحده بمدى مرض زوجته التي لم يكن يملك المال لعلاجها ، وبأحوال أطفاله الذين يتضورون جوعًا من قلة الأكل والحيلة .
وأخذ الفقير يرفع صوته بالشكر والثناء لله الذي بعث إليه هذه النقود من حيث لا يعلم ولا يدري ، وكيف أنها ستكون ملاذه في إنقاذ أسرته من الجوع والبرد ، وقع هذا المشهد في نفس التلميذ وبلغ منه مبلغًا عظيمًا حتى أن عينية اغرورقت بالدموع ، وأدرك حينها أن جبر الخواطر ومساعدة المحتاج هي أعظم متعة يمكن أن يشعر بها الفرد .
وهنا قال الفيلسوف لتلميذه : ألا تشعر الآن بغبطة أكبر مما كنت ستشعر به إن سخرت من فقر هذا الرجل كما كنت تفكر أن تفعل ؟ فأجاب التلميذ الشاب : لقد علمتني الآن يا أستاذي درسًا لن أنساه ما حييت ، لقد أحسست الآن بصدق الكلمات التي لم افهمها أبدًا من قبل (أنه لأكثر بهجة أن تعطى من أن تأخذ) .