لا أغادر المنزل إلا للضرورة القصوى ، نجحت ندى في جري إلى المكان الذي كان يعج بالناس ، كاتبة موهوبة توقع خمس كتب أطفال ، ترددت في قبول الدعوة ، إذ لا أريد أحد أن يسألني : أين أنتي هذه الأيام ، أو ماذا تفعلين ؟ ، لا أريد أن أجيبهم في البيت ، لا شيء .. لا أريد لعب دور الضحية أمام الآخرين ، وخصوصاً أنني كنت الجلاد في حق نفسي ، اشترطت عليها : بدون مكياج وتوابعه ..
القاعة :
أدخل إلى المكان موجة هائلة من البشر تشعرني بغثيان مفاجئ ، أتمسك بندى ، أدور وراءها خطوة بخطوة ، وندى كثيرة الحركة والمعارف ، أشيح بناظري عن بعض الأصدقاء ، أشعر أنهم يفعلون بالمثل ، فينقبض قلبي .
رحت أتلهى بتصفح الكتب الممتازة ، غرقت فيها فترة ، حتى اختفت ندى بين الجمع ، لم يبقى أمامي سوى مزاحمة الأطفال ، لأحصل على مقعد يتيح لي الدخول في صندوق الفرجة الأثري ، أضع عيني في المنظار وأسافر إلى عالم آخر .
لقاء ومرور الوقت :
لم أدر كم من الوقت مرّ، عندما شعرت بيد تربت على كتفي وصوت طفولي يسأل : تانت ، نحنا كمان بدنا نشوف وانتى كتير طولتي ! ، تجنبت النظر إليه ، وتحاشيت الذهاب في اتجاهه ، وها هو الآن يغادر ، يمشي بجواري حتى كاد يلامسني هل أشاح بوجهه عمداً ، أم أنه لم ينتبه بالفعل لوجودي ؟ ، استوقفته بسرعة ، فأبدى دهشة مصطنعة قائلاً : شو دخلك أنت بالأطفال ؟ ماذا تفعلين هنا ؟ أرغمت نفسي على الابتسام ، ما أنا الطفلة المعجزة شو نسيت ؟
الاختفاء :
وانضم طبعًا ، إلى كثير من الأصدقاء قبله ، أحس بالذنب وقال : اعذريني ، عرفت مؤخرًا بما حصل لك ، أين أنت ؟ ماذا تفعلين هذه الأيام ؟ ، حاولت استحضار حيوية ما ، ورحت أخبره عن مشاريع وهمية بفرح واهن ، ختم اللقاء كعادته : طيب اتصلي فيّ ، خلينا نشرب قهوة مع بعض ؟ هذه المرة لم أكتفي بكلمة أكيد ، بل بجملة طويلة شرحت له فيها كيف يختفي اثر كل مرة أتصل فيها به لنشرب فنجان القهوة هذا !!
سحر الكلمات :
لم يكن يجيبني في السابق ، لكنه كان على لائحة أصدقائي المحببين ، برر موقفه بكلمات غير مفهومة ، قال : عليّ أن أغادر بسرعة ، إذ لا أقدر على استنشاق عطرك ، الذي يثير أشياء غريبة في مخيلتي .
كان على أي امرأة أن تقع تحت تأثير سحر الكلمات المجاملة الأخيرة ، ولكني لم أفعل ، اعتبرتها مجرد طريقة ذكية للانسحاب من دون جرح شعور محدثته ، أقف وحيدة بضع ثوان ، فقدت بعدها احتمالي ، وندى تائهة عن نظري ، وزميل سابق على بعد خطوات .
الشجاعة :
استجمعت شجاعتي وتوجهت نحوه ، فلم يعرفني ! وحين فعل قال : بأن شعري طال كثيراً ، وبأنني استفدت من سمنتي قليلاً ، ثم أردف : وماذا تفعلين هذه الأيام ؟ ، أجبت : أرتاح وأفكر حتى أعلم ماذا أريد ، فيقول ساخراً : حاذري ، من الممكن أن لهذه الراحة أن تطول عشر سنوات وهنا يحلو لي ، وبطريقة غير مباشرة ، أن أنشط ذاكرته بخصوص وضعه المزري وأنسحب .
قدرة الاحتمال والانسحاب :
أين أنت ؟ ماذا تفعلين هذه الأيام ، ماذا فعلت ، وأخيراً شو عاد صار معك ؟ لم أعد أحتمل وقع هذه الأسئلة ، التي تنهال كالسياط على جلدي خصوصاً عندما تصوبها أفواه الآخرين نحوي .
أنا في البيت ،أضيع وقتي بالاكتئاب ونصب العراقيل في وجه كل ما من شأنه انتشالي من هذه البؤرة ، فأجتر أيامي ، وأغرق في الكسل ، والبكاء أحياناً ، بينما يلح عليّ السؤال الموسمي : ما جدوى حياتي ؟ ، تهتف ندى : يلاّ حياتي ، تأخرت على ابني ، وننسحب .