كنت أتدلى من فوق كرمتي بالطائف ، وكان يملك كمتي رجل اسمه عتبة بن ربيعة ، وأخوه شبيه .. وقد رأيت من مكاني هذا محمد رسول الله ، وقد جاء إلى بني ثقيف بالطائف ، جاء متخفيًا لا يعلم به أحد ، كان يريد أن يدعوهم إلى الإسلام ، وكان يرجو أن تكون ثقيف أقل تعصبًا وأكثر تعقلًا من قريش .

أول المؤمنين بمحمد رسول الله :
ومنذ ظهرت إلى الوجود برعمًا صغيرًا ، تتكون حباته من الحصرم ، وأنا أسمع عن محمد من الذين يأتون من مكة ، ويستظلون بكرمتي ، علمت أن أول من آمن به من النساء ، زوجته خديجة ، ومن الرجال أبو بكر ، ومن الأطفال علي بن أبي طالب .

موقف قريش من محمد رسول الله :
ولكني عرفت أن الذين آمنوا به كانوا عددًا قليلًا ، وأنّ أغلبية قريش لم تؤمن به ، بل سخرت منه ، وقاومته بكل سبيل ، وقد حاولت إغراءه ، بالملك والمال ، ليعدل عن دعوته ، ويكف عن تسفيه الأصنام التي كانت تعبدها قريش .

محمد رسول الله وعمه أبي طالب :
وسمعت من جالس تحتي أنهم أرسلوا إليه مع عمه أبي طالب ، يقولون له : إن قريشًا تعرض أن تأخذ منها ما تريد من المال ، على أن تترك هذا الدين الذي تدعو إليه ، فقال رسول الله : والله يا عمي ، لو وضعوا الشمس في يميني ، والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته ، حتى يظهره الله أو أهلك من دونه .

رسالة أخرى لمحمد رسول الله من قريش :
ثم سمعت من عتبة ، صاحب كرمتي ، أن قريشًا أرسلته أيضًا إلى محمد رسول الله ، ليقول له : إن قريشًا مستعدة ، إن كنت تريد مالًا أن تعطيك حتى تصبح أغناهم ، وإن كنت تريد شرفًا جعلوك سيدًا لهم لا يفعلون شيئًا ، إلا إذا أخذوا رأيك ، وإن كنت تريد أن تصبح ملكًا جعلوك ملكًا ، وأجلسوك على العرش ، وإن كان هذا الوحي مرضًا أتوا لك بأمهر الأطباء لعلاجك حتى تشفى .

فرد محمد على عتبة ، يتلو عليه آية كريمة : بسم الله الرحمن الرحيم (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ ۖ) صدق الله العظيم.

عتبة وقبيلة قريش :
فعاد عتبة إلى قريش ، يقول لها : سمعت كلامًا لا هو بشعر ، ولا هو بسحر ، ولا هو بالكهانة ، وطلب عتبة إلى قريش ، أن تترك محمدًا وشأنه ، قائلًا : لقد كان محمد فيكم غلامًا حدثًا ، أكرمكم خلقًا ، وأصدقكم حديثًا ، وأعظمكم أمانة ، حتى إذا كبر وجاءكم بما جاءكم ، قلتم : كاذب وساحر !

لا سلام ولا كلام :
لم تنفع إغراءات قريش لمحمد بالمال والملك ، واستمر يدعو لدين الله الواحد الأحد ، فزادت قريش من إيذائها له وتنكيلها ، به هو وأتباعه ، ودعت إلى مقاطعته وعزله هو والمسلمين ، الذين اتبعوه ، وعلقّت صحيفة من الجلد  في الكعبة تدعو فيها الناس إلى ذلك ، وتقول لهم : لا سلام ولا كلام مع المسلمين .. ولا بيع ولا شراء منهم .. لا زواج ولا مصاهرة .. لا تعامل معهم من أي لون !

المقاطعة والتعاملات :
ولم تنفع هذه المقاطعة أيضًا ! وخاصة وأن خمس من كبار رجال قريش ، أعلنوا بعد ثلاث سنوات من المقاطعة ، أنهم لا يعترفون بها ، ومزقوا الصحيفة وأبطلوا العمل بها ، ولكن نهاية المقاطعة ، لم تصرف كفار قريش عن استمرار التعذيب والإيذاء لمحمد وأتباعه .

إيذاء محمد رسول الله وأتباعه :
وزاد التعذيب وتضاعف الإيذاء بعد موت عمه أبي طالب ، وزوجته خديجة ، فقد ألقوا على الرسول ، وهو ساجد في صلاته ، أمعاء شاةٍ مذبوحة ..وهم يضحكون ! كما وضعه واحد من الكفار ثوبًا حول عنقه ، وكاد يخنقه !

عنقود العنب :
كنت أسمع هذه الأخبار وغيرها من القادمين من مكة ، وهم جالسون تحتي يستظلون بكرمتي ، كانت هذه الأخبار الحزينة تؤلمني ، وكنت أتمنى أن أجد فرصة في حياتي القصيرة أرى فيها محمدًا ، ولم أكن أريد أن يطول بي العمر على كرمتي خوفًا من أن يأخذني الكفار ويعصروني خمرًا تأخذ بعقولهم ، فيزيدوا في عذاب المسلمين ، لذلك كنت أتصور فرصتي في لقاء محمد ، وقد حقق الله أملي ، إذ جاء بنفسه إلى هنا لأراه ، وبقدر ما سعدت برؤيته ، حزنت لما حدث ، وكدت أبكي وأنزف دمعي حين رأيت ما جرى له .

محمد رسول الله وأشراف ثقيف :
فقد جلس إلى أشراف ثقيف يعظهم ، ويدعوهم إلى الإيمان بالله ورسوله ، وكتابه فإذا هم يردونه ردًا خشنًا ، ويغلظون له القول ، وفي الطريق عودته إلى مكة طارده صبية صغار لا يعقلون ، ومعهم بعض السفهاء ، يحيطون بالرسول ، ويضربونه بقسوة ويقذفونه بالحجارة ، ويشتمونه ويهزؤون به ، ويمسكون به كلما حاول الجري مبتعدًا عنهم !

دعوة الرسول :
وأخيرًا استطاع أن يفلت منهم وأن يلجأ إلى ظل الكرمة التي أتدلى منها ، ويقعد تحتها في تعب وإعياء ، وسمعته يقول : اللهم ..إليك أشكو ضعف قوتي ، وقلة حيلتي ،وهواني على الناس ، يا أرحم الراحمين ، اللهم إن لم يكن بك غضب عليّ فلا أبالي ).

إكرام صحاب الكرمة لمحمد رسول الله:
وكان عتبة وأخوه شيبه ، يقفان بالقرب منه ويسمعان كلماته ، فإذا بعتبه يطلب من غلامه ، عدّاس أن يقطفني من فوق الكرمة ، ويضعني في طبق ، ويقدمني إلى محمد صلى الله عليه وسلم ، شعرت بنفسي أهتز فرحًا ، فوق الغصن الذي أنا عليه ، وغمرتني السعادة ، وأنا أنزل من مكاني ، إلى الطبق ، ليضعني عداس أمام محمد رسول الله ، الذي مدّ يده الكريمة وقال : بسم الله الرحمن الرحيم .

رسول الله والغلام عداس :
وقد أعجب عداس لهذه الكلمة التي لم يسمعها من أحد من قبل ، فيبدي دهشته للرسول قائلًا : هذا كلام لا يقوله أهل هذه البلاد ، فسأله الرسول : ومن أهل أي بلاد الله أنت ؟ أجاب عداس : أهل نينوي ، ورد الرسول : من قرية الرجل الصالح يونس بن متى ..  فسأله عدّاس : وما يدريك بيونس بن متى ؟! .. فأجاب الرسول : كان نبيًا وأنا نبي .. فانحنى عدّاس على رأس محمد ، ويده وهو يقبله ويهتف : نبي .. نعم نبي ..لا يمكن د أن يحتمل أحد ما تلقى إلا في سبيل الحق ودين الحق .

أسعد عنقود عنب في التاريخ :
وانفرطت حباتي بين يدي رسول الله ، وأنا أسعد عنقود عنب في تاريخ الدنيا كلها ، فأنا قد صرت طعامًا للرسول ، بعد طول عذابه ، وشهدت إيمان عدّاس به ، وبرسالته السماوية العظيمة .

By Lars