يُحكى أنه كان هناك مزارع ثري ، يريد أن يفوز في كل صفقة يدخل فيها بنصيب الأسد ، لذلك لم يكن غريبًا أن يساوم باستمرار في كل صغيرة وكبيرة ، وقد وعد راعيًا عنده بأن يعطيه عجلًا صغيرًا في مقابل عمله عنده ، ولما حل موعد تنفيذ هذا الوعد ، رفض المزارع إعطاءه العجل ، واضطر الراعي إلى أن يلجأ إلى عمدة البلدة يشكو إليه الأمر .
عمدة البلدة واللغز :
وكان العمدة شابًا صغيرًا ، تولى منصبه منذ وقت قريب ، ولم تكن لديه خبرة كافية في حل هذه المشكلات ، وعندما استمع إلى الطرفين ، لم يستطع أن يحكم في القضية أو يبث في الأمر لصاحب الحق .
لذلك قال : سوف أطرح عليكم لغزًا ومن منكما يقدم الجواب الأصح والأصلح ، يكون العجل له ، هل توافقان ؟لم يكن أمام المتنازعين غير قبول هذا الحكم العجيب ، والاقتراح الغريب ، فقال العمدة : هذا هو اللغز ! ما هو أسرع شئ في الدنيا وما أحلى ما فيها وما هو أكثرها غنى وثراء ؟
المزارع والغضب :
عاد المزارع إلى بيته غاضبًا يقول لنفسه : ما هذا العمدة الشاب الذي لا يعرف كيف يقضي بين الناس ! لو أنه حكم لصالحي لأهديته سلة من الكمثرى ، أما الآن فإنني مقدم على فقد هذا العجل ، لأنني لن أستطيع أن أحل هذا اللغز الغبي ، وعندما وصل إلى داره سألته زوجته : أراك متجهما حزينًا ماذا بك ؟
هذا العمدة الشاب إنه جديد على منصبه لو أن العمدة القديم ،كان مكانه ، لأعطاني العجل بلا مناقشة ، أما صاحبنا هذا فإنه يستخدم الألغاز في حل القضايا التي تواجهه ، والمشكلات التي تعترضه .
زوجة المزارع وحل اللغز :
وعندما سمعت الزوجة اللغز ابتسمت ، وقالت : لا تنزعج ولا تقلق يا زوجي العزيز إن لدي الحل ، حقًا !! إن أسرع شئ في الدنيا هو حصاننا الذي يسابق الريح أليس كذلك ، أما أحلى شئ فهو العسل ، الذي نأخذه من خلايا النحل الذي نربيه هل أنت معي ، أما أكثر الأشياء غنى فهو خزانتنا التي تمتلئ بالذهب والفضة والمجوهرات إننى على ثقة من ذلك.
فرح المزارع وظهرت الفرحة على قسمات وجهه ، وقال : شكرًا لك يا زوجتي العزيزة ، لا شك أن محاولتك في حل اللغز صحيحة وسليمة ، وسوف نسترد هذا العجل ، ولن يذهب أبدًا إلى ذلك الراعي الطماع .
الراعي والغضب :
وعندما عاد الراعي إلى بيته كان حزينًا مقطب الوجه ، يتنهد ويزفر ، واستقبلته ابنته الجميلة الذكية عند الباب ، وتعلقت برقبته تقبله وتسأله ، عما به : ماذا هنالك يا أبى ؟ وماذا قال العمدة ؟ إنني أظن أنني قد فقدت العجل إلى الأبد إذ طرح علينا العمدة لغزًا ، لا أظنني قادرًا على أن أجد له الجواب الصحيح يا عزيزتي مانكا !
ابنة الراعي وحل اللغز :
ما هذا اللغز ، قد أستطيع أن أساعدك في حله ، وذكر الراعي الأسئلة الثلاثة التي طرحها العمدة عليه ، وعلى خصمه المزارع ، وسكتت مانكا وأخذت تفكر في حل هذا اللغز ، وفي اليوم التالي عندما كان الراعي يستعد للذهاب إلى العمدة أجابت مانكا إجابة رأت أنها السليمة .
الخصمان المتنازعان وحل اللغز :
وعندما وصل الخصمان إلى العمدة ، فرك المزارع يديه في بعضهما ، ولاحت على وجهه ابتسامة عريضة ، وتطلع إلى العمدة في ثقة ، وعاد هذا من جديد طرح الأسئلة الثلاثة على المتقاضيين ، وانبرى المزارع يقول : أسرع ما في الدنيا حصاني ، وأحلى ما فيها عسلي وأغنى وأثرى شيء هو : خزانتي العامرة بكل ما هو ثمين من الذهب والفضة والمجوهرات .
ونفخ المزارع صدره ، وأطال رقبته وهز رأسه علامة على الفوز والانتصار ، وتساءل في استنكار : هل لدى الراعي إجابة مثل التي ذكرتها ؟
إجابة الراعي :
تقدم الراعي وحنى رأسه قليلا ، وقال في هدوء وعمق : أسرع ما في الوجود هو الأفكار ، إذ تأتي الفكرة في لمح البصر ، وهكذا تمضي لها أجنحة ، أما أحلى شيء يا إخوتي فهو النوم ، فهل ترون شيئًا يمكن أن يكون في حلاوته وخاصة عندما نتعب ، أما أكثر الأشياء غنى وثراء فهو الأرض ، لأنها مصدر كل الغنى وكل الثراء في هذا الوجود بمناجمها وآبارها بغاباتها وزراعاتها .
العمدة والحكم :
تطلع إليه العمدة وهو يقول: إن العجل لك ، ونظر إلى المزارع متسائلا : ألم تكن إجاباته الأفضل والأحسن ، إن لدي رغبة عارمة في أن أعرف من ساعده عليها فلا أظنها من عنده.
ابنة الراعي والعمدة :
في البداية رفض الراعي أن يعلن بمن أعطته الإجابات ، لكن العمدة ضغط عليه ، فأضطر إلى أن يذكر أنها ابنته مانكا ، فقال العمدة : إن في جعبتي الكثير مما أحتاج إليه من ابنتك مانكا ، من أجل مزيد من الاختبارات لها .
مانكا والبيضات العشرة :
اعتدل العمدة في جلسته وأشار إلى خادمه ، أن يحضر عشر بيضات ، أعطاها للراعي وهو يقول : هذه هي البيضات ، واجعل ابنتك مانكا ، تعجل بفقسها غدًا وأحمل إلى الكتاكيت أو الفراخ العشرة.
ذكاء مانكا :
وعندما عاد الراعي إلى البيت ، أبلغ ابنته بما طلبه العمدة ، وضحكت الفتاة الذكية وقالت لأبيها : خذ يا أبي حفنة من تراب الأرض ، واذهب بها إلى العمدة ، وقل له : إن ابنتي تسألك ، هل تستطيع أن تزرعها بمحصول ما في يومنا هذا وتحصده غدًا ؟ ، إذا فعلت ذلك ، فإن ابنتي على استعداد لأن تبعث إليكم بالفراخ ، لكي تطعمها ما حصدته من زرعك .
الزوجة والشروط :
وعندما سمع العمدة ذلك ، ضحك طويلا من أعماق قلبه ، وقال: إنها فتاة ذكية ، بل هي غاية في الذكاء ، وإذا كان جمالها في مستوى ذكائها ، فإنني أرى أنها تصلح زوجة لي ، وعليك أن تبلغها بأن تأتي لزيارتي بشرط أ، لا يكون ذلك بالنهار أو بالليل ، وألا تأتي راكبة أو سائرة على الأقدام ، وألا تكون عريانة أو مرتدية ثيابها.
قبول الشروط والزيارة :
نقل الراعي رسالة العمدة إلى ابنته ، التي انتظرت إلى اليوم التالي ، ومع الفجر وعندما مضى الليل ، ولم يقبل الصباح بعد ذهبت إلى العمدة ، لفت نفسها في شبكة صيد ، ومشت على قدم واحدة ووضعت الأخرى فوق عنزتها الصغيرة ، واستقبلها العمدة فقالت له : لسنا الآن بالليل أو بالنهار ، نحن في الفجر ، ثم إنني لست عريانة ولا أضع فوقي ثيابي ، ولا تراني لا راكبة عنزتي ، ولا أنا أمشي على قدمي.
انبهار وذكاء وشروط جديدة :
انبهر العمدة الشاب بذكاء مانكا ، وحسن تصرفها وسعة أفقها ، وطريقة تفكيرها ، وتقدم إلى أبيها يطلب يدها واشترط عليها ، قائلًا : مانكا عليك ألا تمارسي ذكاءك هذا عليّ شخصيا ! ولا على حسابي وأحذرك من التدخل في عملي ، أو في قضاياي بأي شكل من الأشكال ، وأنت ممنوعة تمامًا أن تقدمي لأحد رأيك ، أو مساعدتك إذا لجأ إلي ، إنك إذا فعلت شيئًا من هذا فإنني سأتخلص منك في التو واللحظة ، وأعيدك إلى بيت أبيك ، هل توافقيني على هذا الشرط .
إتمام الزواج :
أحمر وجه الفتاة ، وخفضت صوتها ورأسها وهي تقول في رقة ، وعذوبه : نعم أوافقك .. وتم زواج العمدة من مانكا ، وكما يقولون دائمًا في الحكايات: وأقيمت الأفراح والليالي الملاح .
نزاع جديد على مهر صغير :
وذات يوم جاء إلى دار العمدة ، فلاحان يتنازعان ملكية مهر صغير وضعته فرس أحدهما ، تحت عربة الأخر في السوق ، فأدعى كل منهما أنه له ، وكان العمدة مشغولًا بأمور كثيرة ، ورغب في أن يفرغ من هذه القضية بسرعة ، وإذا به في عجلة من أمره ، يحكم بأن المهر الصغير من حق صاحب العربة التي ولد تحتها .
ذكاء مانكا والتدخل في الأحكام :
وعندما كان الفلاح صاحب الفرس الأم يغادر بيت العمدة ، التقي مع مانكا على غير قصد ، وحكى له ما حدث من زوجها ، فغضبت فيما بينها وبين نفسها من هذا الحكم الجائر، الذي أصدره ، وقالت للفلاح : عد إلينا بعد ظهر اليوم ومعك واحدة من شباك صيد الأسماك ، وافرشها على الأرض بعرض الطريق وعندما يراك العمدة تفعل ذلك ، فسوف يخرج ، ويقول لك : ماذا تفعل .
قل له : إنك تصيد السمك ، وإذا ما قال لك : كيف يمكن أن تتوقع صيد السمك من فوق الأرض ، قل له : ليس هناك ما هو أيسر من ذلك : لأنه على الأقل أسهل بكثير من أن تلد عربة مهرًا صغيرًا .
الشعور بالظلم :
وعندها سوف يشعر أنه قد ظلمك ويعيد إليك مهرك وتنبه إلى شئ مهم إحذر أن تقول له : إنني أنا التي أرشدتك إلى هذا ودللتك عليه .
في اليوم التالي :
وبعد ظهر ذلك اليوم ، جاء الفلاح بالشبكة وألقى بها على الأرض ، أمام بيت العمدة الذي رآه وسأله عما يفعله ، ودار الحوار بينهما على نفس ما توقعته مانكا ، وفعلًا اعترف العمدة بأنه قد أخطأ في حكمه في الصباح ، وأعاد إلى الرجل مهره .
كشف الستار :
لكنه أحس من تسلسل الأحداث ، أن مانكا لا بد أن تكون من وراء ذلك ، ولذلك سأل الرجل في إصرار ، عمن دبر له هذا الأمر ووضع له هذه الخطة ، وحاول الفلاح أن يخفى الأمر عن العمدة ، إلا أنه رفض أن يدعه يغادر المكان قبل أن يعترف له بالأمر ، ويكشف الستار عمن عاونه وساعده .
وعندما شعر بأن العمدة مصر على معرفة صاحب الفكرة ، اضطر الرجل إلى أن يعلن أنها مانكا ، وأنه ما من شخص آخر يستطيع قط ، أن يفكر بهذا الأسلوب وهذه الطريقة غيرها ، هي وحدها .
العمدة والغصب الشديد :
فقد العمدة صوابه ، وغضب غضبًا شديدًا ، وذكر زوجته بما سبق أن اشترط عليها قبل الزواج ، وقال :لا أظنك نسيت ما حذرتك منه يومئذ ، إذا أنت تدخلت في عملي إن عليك الآن أن تغادري بيتي ، إلى بيت أبيك وليس مسموحًا لك أن تحملي من عندي غير شئ واحد ، واحد فقط ترغبين فيه وتعتزين به حتى لا يقال، إنني قد أسأت معاملتك أو أخطأت في حقك .
استعطاف حضرة العمدة :
لم يكن لدى مانكا من عذر لما صنعته ، ولا ما كان هناك مبرر لما عملته ، لذلك اعترفت بأنها أخطأت :، وقالت لزوجها حضرة العمدة في استعطاف : إنني يا زوجي العزيز ، ما كنت أريد بما فعلت غير أن يصل الحق إلى صاحبه ، لا أكثر ولا أقل وعلى كل حال ، سوف أستجيب لما أمرت به ، وهذا حقك وسأعود إلى كوخ أبي ، حاملة معي ذلك الشيء الوحيد الذي أذنت به ، والذي أتمناه وأرغب فيه .
العشاء الأخير :
ثم أردفت مانكا قائلة : غير أنني أرجوك أن يحدث هذا بعد أن أتناول معك طعام العشاء ، إنه العشاء الأخير لي في هذه الدار فلا تحرمني منه ، ولن أتبادل معك كلمة واحدة ، ولن تصدر مني عبارة اعتراض واحدة على قرارك ، ولنكن ودودين مع بعضنا البعض ، كما كنا دائمًا ولنفترق كصديقين .
موافقة العمدة على الشرط :
وافق العمدة على ما طلبته مانكا ، التي أخذت تعد له أفخر أنواع الطعام والشراب مما يحبه ، ويحلو له من صنع يديها وجلسا معًا إلى مائدة العشاء ، وأخذت تقدم له هذه الأطباق واحدًا بعد الآخر ، وتسقيه من الأكواب شرابًا لذيذًا طهورًا، وعندما انتهيا من وجبتيهما بدأ النوم يداعب جفون العمدة ، لم تحاول مانكا إيقاظه ، بل حملته معها وهو مستغرق في نومه ، ومضت به إلى بيت أبيها في عربة أعدتها من أجل ذلك .
في صباح اليوم التالي :
وفي صباح اليوم التالي عندما استيقظ حضرة العمدة من نومه ، أبدى دهشته الشديدة لأنه وجد نفسه في كوخ والد مانكا ، فالتفت حوله وسألها في غضب شديد : من أتى بي إلى هنا ؟ وماذا يعني هذا ..
زوجي العزيز :
قالت مانكا : لا شيء يا زوجي العزيز ، إنني أنفذ ما أمرت أنت به ، حين قلت لي إن من حقي أن أحمل معي شيئًا واحدًا ، أرغب فيه وأعتز به ، صاح في ضيق : أنت لم تجيبيني على سؤالي الآن .
حضرة العمدة :
أضافت : إنك أنت يا زوجي العزيز ، ذلك الشيء الوحيد الذي أعتز به وأرغب فيه ، ولا استطيع أن أعيش بدونه ، لذلك صحبتك إلى بيت أبي بمشيئتك وإرادتك ، نهض حضرة العمدة من الفراش المتواضع ، وأمسك بيد زوجته وهو يقول لها : مانكا يا عزيزتي أنت في منتهى الذكاء واعترف لك أنك زوجة رائعة ، ولسوف أقول لمن يلجأ إلى في مشكلة صعبة ، دعنى استشر زوجتي لأنها إنسانة ذكية وعادلة ، وترك حضرة العمدة ومانكا كوخ الأب ، إلى بيتهما السعيد .