كان في حديقة منفردة جميلة الثنايا طيبة العرف تعيش قانعة بين أترابها وتتمايل فرحة بين قامات الأعشاب ، ففي صباح وقد تكللت بقطر الندى ، رفعت رأسها ونظرت حولها فرأت وردة تتطاول نحو العلاء بقامة هيفاء ورأس يتسامى شامخ كأنه شعلة من النار فوق مسرجة من من الزمرد .
البنفسجية :
ففتحت البنفسجية ثغرها الأزرق وقالت متنهدة : ما أقل حظي بين الرياحين ، وما أوضع مقامي بين الأزهار ! فقد أبدعتني الطبيعة صغيرة ، حقيرة أعيش ملتصقة بأديم الأرض ولا أستطيع أن أرفع قامتي نحو ازرقاق السماء أو أحوّل وجهي نحو الشمس مثلما تفعل الورود .
الوردة :
وسمعت الورده ما قالته جارتها البنفسجية فاهتزت ضاحكة ، ثم قالت : ما أغباك بين الأزهار ! فأنت في نعمة تجهلين قيمتها ، وهبتك الطبيعة من الطيب والظرف والجمال ما لم تهبه لكثير من الرياحين ، فخلّي عنك هذه الميول العوجاء والأماني الشريرة ، وكوني قنوعة بما قسمه الله لك واعلمي أن من خفض جناحه رفع قدره ، وأنّ من طلب المزيد وقع في النقصان .
الطبيعة :
فأجابت البنفسجة قائلة : أنت تعزينني أيتها الوردة لأنك حاصلة على ما أتمناه ، وتغمرين حقارتي بالحكم ، لأنك عظيمة ، وما أمرّ مواعظ السعداء في قلوب التعسين ، وما أقسى القوى إذا وقف خطيبًا بين الضعفاء !
سمعت الطبيعة ما دار بين الوردة والبنفسجة فاهتزت مستغربة ثم رفعت صوتها ، قائلة : ماذا جرى لك يا ابنتي الينفسجة ؟ فقد عرفتك لطيفة بتواضعك عذبة بصغرك ، شريفة بمسكنتك ، فهل استهوتك المطامع القبيحة ، أم سلبت عقلك العظمة الفارغة ؟
التغيير والندم :
فأجابت البنفسجة بصوت ملأه التوسل والاستعطاف : أيتها الأم العظيمة بجبروتها ، الهائلة بحنانها ، أضرع إليك بكل ما في قلبي من التوّسل ، ووما في روحي من الرجاء ، أن تجيبي طلبي وتجعليني وردة ولو ليوم واحد فقط … فقالت الطبيعة : أنت لا تدرين ما تطلبين ولا تعلمين ما وارء العظمة الظاهرة في البلايا الخفية ، فإذا رفعت قامتك وبدلت صورتك وجعلتك وردة ستندمين حيث لا ينفع الندم .
التحوّل من بنفسجة إلى وردة :
قالت البنفسجة : حوّلي كياني البنفسجي إلى وردة مديدة القامة مرفوعة الرأس .. ومهما يحل بي بعد ذلك يكون صنع رغائبي وطمائعي .
فقالت الطبيعة : لقد أجبت طلبك أيتها البنفسجة الجاهلة المتمردة ، ولكن إذا دهمتك المصائب والمصاعب لتكن شكواك من نفسك ، ومدت الطبيعة أصابعها الخفية السحرية ولمست عروق البنفسجة فحوّلتها بلحظة إلى وردة زاهية متعالية فوق الأزهار والرياحين .
الريح العاتية :
ولما جاء عصر ذلك النهار ، تلبّد الفضاء بغيوم سوداء مبطنة بالإعصار ثم هاجت سواكن الوجود ، فأبرقت ورعدت وأخذت تحارب تلك الحدائق والبساتين بجيش عرمرم من الأمطار فكسرت الأغصان ولوت الأنصاب واقتلعت الأزهار المتشامخة .
ولم تبق إلا على الرياحين الصغيرة التي تلتصق بالأرض أو تختبئ بين الصخور ، أمّا تلك الحديقة المنفردة فقد قاست من هياج العناصر ما لم تقاسمه الحديقة الأخرى ، فلم تمر العاصفة وتنقشع الغيوم حتى أصبحت أزهارها هباء ، ولم يسلم منها بعد تلك المعمعة الهوجاء سوى طائفة البنفسج المختبئة بجدار الحديقة .
طائفة البنفسج والوردة المتحولة :
ورفعت إحدى صبايا البنفسج رأسها فرأت ما حلّ بأزهار الحديقة وأشجارها فابتسمت فرحًا ، ثم نادت رفيقتها قائلة : ألا فانظرن ما فعلته العاصفة بالرياحين المتشامخة ، تيهًا وعجبًا ، وقالت بنفسجة أخرى نحن نلتصق بالتراب ولكننا نسلم من غضب العواصف والأنواء .
وقالت بنفسجة ثالثة : نحن حقيرات الأجسام غير أن الزوابع لا تستطيع التغلب علينا، ونظرت إذ ذاك مليكة الطائفة البنفسج فرأت على مقربة منها الوردة التي كانت بالأمس بنفسجة وقد اقتلعتها العاصفة وبعثرت أوراقها الرياح ، وألقتها على الأعشاب المبللة فباتت كقتيل أرداه العدو بسهم .
نصيحة ملكة البنفسج :
رفعت مليكة طائفة البنفسج قامتها ومدت أوراقها ونادت رفيقاتها ، وقالت : تأملن وانظرن يا بناتي ، انظرن إلى البنفسجة ، التي غرتّها المطامع فتحولت إلى وردة لتشامخ ساعة ثم هبطت إلى الحضيض ، ليكن هذا المشهد أمثولة لكنّ .
البنفسجة الطموح :
عندئذ ارتعشت الوردة المحتضرة واستجمعت قواها الخائرة ، وقالت بصوت متقطع : ألا فاسمعن أيتها الجاهلات القانعات ، الخائفات من العواصف والأعاصير ، لقد كنت بالأمس مثلكن تمامًا أجلس بين أوراقي الخضراء مكتفية بما قسمه الله لي ، وقد كان الاكتفاء حاجزًا منيعًا يفصلني عن زوابع الحياة وأهويتها ويجعل كياني محدودًا ، بما فيه من السلامة ، متناهيًا بما يساوره من الراحة والطمأنينة .
ولقد كان بإمكاني أن أعيش نظيركن ملتصقة بالتراب حتى يغمرني الشتاء بثلوجه ، وأذهب كمن ذهب قبلي إلى سكينة الموت والعدم وقبل أن أعرف أسرار الوجود ومخبآته غير ما عرفته طائفة البنفسج منذ وجد البنفسج على سطح الأرض لقد كان بإمكاني الانصراف عن المطامع والزهد في الأمور التي تعلو بطبيعتها عن طبيعتي .
لوم وعتاب البنفسجه :
لكني أصغيت إلى سكينة الليل فسمعت العالم الأعلى يقول لهذا العالم : إنما القصد من الوجود الطموح إلى ما وراء الوجود .. فتمردت نفسي على نفسي وهام وجداني بمقام يعلو عن وجداني ، ومازلت أتمرد على ذاتي وأتشوق إلى ما ليس لي حتى انقلب تمردي إلى قوة فعالة واستحال شوقي إلى إرادة مبدعة فطلبت إلى الطبيعة .. وما الطبيعة سوى مظاهر خارجية لأحلامنا الخفية ، أن تحولني إلى وردة ففعلت ، وطالما غيرت الطبيعة صورها ورسومها بأصابع الميل والتشويق .
فخر واعتزاز :
وسكتت الوردة هنية ثم زادت بلهجة مفعمة بالفخر والتفوق : لقد عشت ساعة كملكة ، لقد نظرت إلى الكون ، من وراء عيون الورد ، وسمعت همس الأثير بآذان الورود ، ولمست ثنايا النور بأوراق الورود ، فهل بينكن من تستطيع أن تدعي شرفي ؟
نهاية البنفسجه الطموح :
ثم لوت عنقها ، وبصوت يكاد يكون لهثًا ، قالت أنا أموت الآن ، أموت وفي نفسي ما لم تكنه نفس بنفسجة من قبلي ، أموت وأنا عالمة بما رواء المحيط المحدود الذي ولدت فيه ، وهذا هو القصد من الحياة ، هذا هو الجوهر الكائن وراء عرضيات الأيام والليالي ، وأطبقت الوردة أوراقها ، وارتعشت قليلاً ثم ماتت ، وعلى وجهها ابتسامة من حققت الحياة أمنياته ، ابتسامة النصر والتغلب .