كنا حوله ذات مساء فوق المصطبة الحجرية نحبه وهو بصدر المكان والهدوء يشمل الدار كنا نصغي إليه ونحلق بعيدًا مع حكايته التي لا تنسى ، ذلك التاجر الشاب منصور في دكانه يطالعك في أول السوق بوجهه الوسيم بابتسامته الهادئة وعينيه الصافيتين يعرض بضاعته أمامك ، هذا قماش من الهند وذاك من الشام وهذا حرير طبيعي من الصين ، فالتاجر الذكي رأس ماله الصدق والأمانة والبضاعة الجيدة ، واسم منصور بالسوق على كل الألسن .
حتى صار التجار الكبار يحسدونه فتجارته رائجة وبضاعته من الأقمشة والحرير والناس يتزاحمون عليه لأنه يرضى بالقليل من الربح ، وكان منصور يردد دائمًا كن متسامحًا في بيعك تكسب كثيرًا من الأصحاب والزبائن ، وهذا يوم جاءه رجلُ غريب وقف يقلب نظره في الأقمشة ويتلمس الحرير ثم بدأ ينتقي أجودها .
قال الرجل الغريب أن تاجر مثلك وقد أعجبتني بضاعتك أريد شراء هذه الرزم ولكن ليس معي ما يكفي ثمنًا لها ، إذا أتيت إلى مدينتي سوف أكرمك وأدفع لك الثمن ، فأجابه منصور باسمًا لا بأس عليك خد ما تشاء ، فليس من عادتي أن أرفض طلبًا ، فأخذ الغريب ما أراد وتخير أحسن الأقمشة وانتقى أفضل الأثواب ، وجمع منصور ذلك كله في رزم كبيرة حملها معه حتى أخر السوق ، ثم ودعه قائلًا رافقتك السلامة ومرت أيام وشهور طويلة فأحب منصور أن يروح نفسه من عناء العمل فجهز حاله للسفر وزيارة هذا التاجر الغريب في مدينته البعيدة .
كان الطريق شاقًا والسفر صعبًا ، ووصل منصور المدينة قبيل مغيب الشمس فأسرع للسوق يسأل عن الرجل وتوقف أمام متجر كبير وكان هناك عمال كثيرون وزبائن كثيرون وفي صدر المتجر رأى الرجل الغريب نفسه ، ودخل منصور عليه فأنكره الرجل وحلف أنه لم يره من قبل ولم يسافر ولم يشتري منه شيئًا ، وأشار الرجل لعماله فأحاطوا بمنصور ثم طردوه خارج المتجر ، حزن منصور كثيرًا وشعر أنه كان مغفلًا حين صدق رجل غريب ، وأعطاه بضاعة كثيرة من دون أن يقبض قرشًا واحدًا .
لجأ منصور لنُزل لكي يقضي فيه ليلته ولم يكن يستغرق في النوم حتى هب على دقات طبل تدوي في أرجاء المدينة ، استغرب منصور وسأل صاحب النُزل عن ذلك فقال له تلك عادتنا في هذه المدينة إذا مات رجلُ يدق طبله أربع دقات ولو مات رجل أرفع مكانة دوق عشر دقات ، ولن عندما يموت الأمير فإنهم يقرعونه عشرين مرة ، فاجتمعت فكرة في رأس منصور فترك منذ الصباح الباكر غرفته وقصد قارع الطبل وكان لا يزال نائمًا فأيقظه وأعطاه ليرة ذهبية طالبًا إليه أن يقرع الطبله ثلاثين مرة ودوى الصوت قويًا .
هزت المدينة النائمة وأيقظت الراكدين وسادت البلبله وعمت الفوضى وتردد الناس في الطرقات صائحين يا لطيف ما الذي جرى أي مصيبة وقعت ، وفي قصر الأمير تم استدعاء قارع الطبل فسأله الأمير بنفسه لماذا فعلت ذلك ، فقال هناك تاجر اسمه منصور طلب مني هذا طلب مني هذا بعد أن أعطاني ليرة ذهبية .
فغضب الأمير وقال أحضره في الحال ، فجاء منصور أمام الأمير كان هادئًا ووجهه يوحي بالصدق فقص عليه ما كان عليه من غدر الرجل وقال منصور فإذا كانت وفاة الأمير لسمح الله تُعلن في عشرين قرعه فلماذا لا يُعلن موت الأمانة والصدق بثلاثين ، فأعجب الأمير بذكاء التاجر منصور فقربه منه وأكرمه غاية الإكرام وطيب خاطره بعد أن قال له لن تموت الصدق والأمانة بين الناس ثم عقب الرجل المحتال عقابًا أليمًا بعدما دفع ثمن البضاعة ، أما منصور فقد رجع بعد أيام لمدينته وافرًا غانمًا ..