كان محمود أرصاد ، زميلاً لنا في المدرسة ، ولقبه لم يكن أبداً أرصاد ، ولكننا أطلقنا عليه ذلك لأنه كان يجيد التنبوء بحالة الجو ، أفضل حتى مما يذاع في الراديو أو التلفزيون من النشرات الجوية .
تنبؤات محمود:
ففي بعض الأيام كنا نذهب إلى المدرسة بملابس ثقيلة ، لأن مذيع النشرة الجوية حذرنا ببرودة متوقعة في الجو ، بينما محمود يأتي بملابس خفيفة تناسب الجو الدافئ ، كنا نضحك منه لأن الجو يكون غائماً وينذر بالمطر ، لكن لا تمر ساعة حتى تشرق الشمس ، ويصير الجو صحواً ودافئاً ، فنحتار ماذا نفعل في ملابسنا الثقيلة ؟!
وفي أيام أخرى يحدث العكس ، نأتي بملابس خفيفة ، متوقعين الطقس الدافئ تبعاً لما نصحنا به مذيع النشرة الجوية بالأمس ، لكن الجو يغيم ، وتختفي الشمس وراء السحب ونرتعش من البرد في ملابسنا الخفيفة ، بينما محمود ينعم بالدفء داخل ملابسه الثقيلة .
الصندوق الزجاجي :
حيرنا محمود بدقة توقعاته عن حالة الطقس ، ولم نكن نعلم السر وراء تنبؤاته ، لكن الفرصة جاءتنا لمعرفة السر ، عندما ذهبنا إلى محمود في بيته لنحتفل بعيد ميلاده ، استقبلنا محمود بترحاب وفرح ، وبعد أن أطفئنا معه الشموع ، وغنينا له سنه حلوة يا محمود ، دعانا لنأكل التورته .
وأخذ يفرجنا على الأشياء التي يفخر بامتلاكها ، ومن هذه الأشياء أدهشنا صندوق خشبي صغير ، مفروش بأوراق الخضرة ، و على الأوراق رأينا بضع قواقع .. أشار إليها محمود وقال : هذه هي محطة أرصادي الجوية ، وهي خبرني بأن الطقس سيكون في الغد لطيفاً.
سر التنبؤات :
كيف ؟ كيف يا محمود ؟ أخذنا نلح عليه أن يشرح لنا ، كيف يتنبأ بحالة الجو من هذا الصندوق الزجاجي وقواقعه المنتشرة على الخضرة ، بعد إلحاح متكرر منا جميعاً ، قال محمود : هذه القواقع تسمى قواقع الحديقة ، وهي منتشرة في كل مكان تكون فيه نباتات ، وتسكنها كائنات رخوية ذات جسم طري ضعيف ، هي الحلزونات ، القوقعة هي بيت الحلزون ، الذي يبنيه بإفراز مادة كلسية حول نفسه ، غرفة وراء غرفة ، وكل غرفة أكبر من سابقاتها بما يتناسب مع نمو الحلزون .
وبعد وقت كاف ، يصير الحلزون في قمة نضجه ، ويكف عن النمو ، لكنه مهما كبر يظل رخواً وعرضه لأعدائه ، الذين يمكن أن يلتهموه بسهولة ، ومنهم الطيور والفئران والثعابين والضفادع ، والقطط والكلاب ، لهذا يظل الحلزون داخل قوقعته معظم الوقت ، ولا يخرج حتى يتأكد من خلو المكان حوله من الأعداء .
كما أنه لا يخرج عندما يكون الجو شديد البرد أو شديد الحر ، وهو يطل من فوهة القوقعة بملمسين دقيقين ، يحمل على قمتهما عينيه الدقيقتين اللتين يستطلع بهما المكان ، وله ملمسان آخران أقصر يحس بهما ويتشمم ، ولأنه بطيء الحركة ، فهو يستشعر طقسه لفترة طويلة قادمة ، تصل إلى عدة ساعات .
معرفة الطقس :
لهذا يعرف هواة تربيتها حالة الجو المتوقعة من بقاء أو ابتعاد الحلزون عن قوقعته ، سكت محمود عن الحديث ونحن مندهشون ، وسأله أحدنا عن حالة الجو غداً ، فأجابنا : معتدل لا برد ولا حر ، ولما ألححنا عليه أن يخبرنا كيف استنتج هذا !
طلب منا أن نميل إلى صندوقه الزجاجي الصغير ، وندقق النظر في الحلزونات ، المطلة من فتحات القواقع ، رأيناها تخرج قليلاً قليلاً بنصف أجسامها ، ورأينا لوامسها مثل هوائيات دقيقة تحمل في أطرافها العيون الدقيقة المستديرة ، وكانت هذه العيون تدور وتلعب في حذر .