قصة الصعلوك كان قد عرف أياماً أفضل بالرغم من بؤسه وعاهته ! ،
في الخامسة عشر من عمره سحقت عربة ساقيه على طريق فأرفل منذ ذلك الوقت ،
وهو يتسول جاراً قدميه على الطرقات بين دروب المزارع ،
يتأرجح على عكازتين وقد تسببتا بارتفاع في كتفيه لتصلا حتى أذنيه ، فبدا رأسه وكأنه قد زرع بين جبلين .
قصة الصعلوك
نبذة عن المؤلف :
قصة من روائع الأدب الفرنسي ، للكاتب هنري رينيه ألبيرغي دي موباسون، ولد موباسان ، عام 1850م وتوفي عام 1893م ،
درس القانون ، ثم التحق بالجيش الفرنسي ، وعمل ككاتب في البحرية الفرنسية ، تميز اسلوبه بالطابع الواقعي ،
وكان يكتب باللغة الفرنسية فقط ، ومن أشهر أعماله بيل أمي وكرة الشحم .
قصة الصعلوك
نشأة الصعلوك :
وجده كاهن ، بيت ، ملقى في حفرة ليلة سبت الأموات ، ولذلك فقد دعي ، نيقولا توسان ،
ونشأ بفضل الصداقات والإحسان ، وبقي بعيداً عن كل تعليم ، ومشوهاً ،
بعد أن سقيّ بضع كؤوس من شراب مسكر قدمها له خباز القرية بهدف الضحك ، ومنذ ذلك الحين أصبح متشرداً لا يعرف سوى التسول .
مسكنه :
فيما مضى كانت بارونة ، آفاري ، تتخلى له لكي تنام عما يشبه الجحر الممتلئ بالقش ،
قرب خم الدجاج في المزرعة المتصلة بالقصر ، كان على يقين أنه سيجد دوماً قطعة خبز ،
وكأساً من السيدر عندما يفتك به الجوع ، وغالباً ما كان يجد هناك ،
بضعة قروش ألقتها السيدة العجوز من أعلى درج المدخل أو من نوافذ غرفتها لكنها توفيت .
القرى والعالم خارجها :
في القرى لم يكن أحداً يعطيه شيئاً ، مع أنهم كانوا يعرفونه تمام المعرفة ، وقد عيل صبرهم من رؤيته مدة أربعين عاماً ،
وهو ينتقل بين المساكن المتداعية جسده الرث المشّوه المرتكز على قوائم خشبية ،
على أنه لم يكن يريد المغادرة فهو لا يعرف شيئاً في الدنيا إلا هذا الركن من البلاد ،
هذه الدساكر التي لا يتجاوز عددها الثلاث أو الأربع حيث أمضى حياته البائسة ،
لقد رسم حدوداً لمنطقة تسوله اعتاد ألا يتجاوزها أبداً .
غادر :
كان يجهل إن كان العالم ممتداً أبعد من الأشجار التي حدّت من رؤيته ، لم يكن ليتساءل عن ذلك ،
وإذ كلّ القرويون من مصادفته عند أطراف حقولهم أو بمحاذاة حفراتهم صاروا يصيحون به : لماذا لا تفارقنا أبداً إلى قرية أخرى بدلاً من تنقلك على عكازيك ؟
لم يكن يجيب ، ولكنه كان يبتعد وقد تملكه خوف غامض من المجهول ،
خوف فقير مسكين يهاب بشكل مشوش آلاف الأشياء ، والوجوه الجديدة ،
والإهانات ونظرات الارتياب التي يوجهها إليه الناس الذين لا يعرفونه ،
والدرك الذين كانوا يسيرون اثنين في الطرقات ، هم كانوا يجعلونه يغطس ، غريزياً ، في أي دغل يصادفه ، أو خلف كومة حصى .
الخوف :
عندما كان يلمحهم من بعيد يلمعون تحت أشعة الشمس ، كانت تعتريه فجأة خفة في الحركة نادرة ،
خفة وخشية لكي يبلغ مخبأً ، لقد كان يتدحرج مفلتا عكازيه ليسقط كخرقة ،
ويلتف على ذاته ليصبح كرة صغيرة غير مرئية وقد سوّى نفسه بمأواه واختلطت أسماله الرثة مع تراب الأرض ،
ومع أنهم لم يتعرضوا له يوماً ، لكنه يحمل ذلك الخوف في دمه كما لو أنه أخذه مع هذه الحيلة كإرث عن أهله الذين لم يعرفهم قط .
الوحدة والمعافرة :
لم يكن يملك مأوى ولا سقفاً ولا كوخاً أو ملجأً ، كان ينام في أي مكان صيفاً ،
وفي الشتاء كان يندس تحت مخازن الحبوب ، أو في الاسطبلات في مهارة لافتة ،
وكان يفر هارباً دون أن ينتبه لوجوده أحد ، كما يعرف الأمكنة المثقوبة لكي يلج منها إلى الأبنية ، واستخدامه الدائم لعكازيه أضفى على ساعديه قوة مدهشة .
إذ كان يتسلق بقوة قبضتيه فقط إلى مخازن العلف العالية في المنازل ،
حيث كان يمضي أربعة أو خمسة أيام بلا حركة وذلك عندما يكون قد حصل على مئونة كافية خلال جولته .
كان يعيش عيشة وحوش الغابة بين البشر ، دون أن يعرف أحداً أو يحب أحداً ،
ولم يكن يثير لدى القرويين إلا نوعاً من الإذدراء والإهمال والعداء ، لقبوه بالجرس ،
لأنه كان يتأرجح بين عكازيه الخشبيين كما يتأرجح الجرس على حوامله .
الجوع :
مضى يومين ولم يذق طعاماً ، اذ لم يعد أحد يعطيه شيئاً ، وقد لفظه الجميع ،
على الأبواب كانت النساء يصرخن نحوه وهو آت من بعيد : ألن تذهب الآن ؟
لقد أعطيتك خبزاً منذ ثلاثة أيام فقط ! وبنفس الطريقة كانت النساء يتنقلن الكلام من باب إلى آخر .
الطريق :
كان قد جال في سانتيلير ، فارفيل ، وفي البيت دون أن يظفر بقرش واحد أو بكسرة خبز ،
بقي له أمل وحيد في تورنول ، لكن كان عليه أن يجتاز ميلين على الطريق العام
وهو يشعر بإرهاق بحيث لم يعد بإمكانه أن يجر نفسه لأن بطنه كان فارغاً كجيبه ، ومع ذلك فقد مشى .
رحلة شاقة :
كان ذلك في كانون الأول والريح الباردة تجول في الحقول ، وتصفر على الأغصان العارية ،
والغيوم تعدو سابحة في السماء المنخفضة المعتمة مسرعة نحو المجهول ،
كان ذلك العاجز يسير على مهل متكئاً على عكازيه وقد أرهقه الجهد .
ومن حين لآخر كان يجلس على جانب الطريق ، يأخذ قسطاً من الراحة لدقائق معدودة ،
كان الجوع يبعث الحزن في روحه المشوشة المثقلة ،
وفي رأسه فكرة واحدة : أن يأكل ، ولكن لا يعرف بأية وسيلة .
القرويين :
كان أول قروي التقاه وطلب منه صدقة فقال : هذا أنت ثانية يا ذا السلوك القذر ، ألن نتخلص منك يوماً ، ابتعد الجرس ،
فقوبل بسوء معاملة أمام الأبواب وأبعدوه دون أن ينال شيئاً ، ومع ذلك تابع جولته بصبر وعناد ولم بحصل على فلس واحد ،
جال في المزارع سائراً على الأراضي التي جعلتها الأمطار طرية ، غير قادر على رفع عكازيه .
وعندما أنهى زيارته لجميع البيوت التي يعرفها ولا تنفتح الأيدي للعطاء ،
ارتمي في حفرة أمام باحة المعلم شيكيه بقي طويلاً بلا حراك ، يتضور جوعاً ، ينتظر المجهول انتظاراً غامضاً ،
انتظر في الفناء في الهواء الجليدي ، وتمر أمامه دجاجات سوداء باحثة عن لقمة عيشها في الأرض ، كنت تلتقط بمنقارها حشرات وحبوب ، ثم تتابع بحثها الدقيق .
مراقبة وقرار :
كان الجرس يراقبها دون أن يفكر في شيء ، ثم راودته فكرة اخترقت معدته بالأحرى دون رأسه ،
أن احدى تلك الدجاجات تكون طيبة المذاق لو شويت على نار الحطب ، ما اعتراه الشك بأنه سيرتكب سرقة ،
فأخذ حجراً كان في متناول يده ، وقتل فوراً الدجاجة الأقرب اليه ، ثم دنا من ذلك الجسم الأسود الملطخ رأسه بالحمرة ،
حينها تلقى دفعة هائلة في ظهره جعلته يفلت عصيّه ويتدحرج بضع خطوات إلى الأمام .
الغضب :
استشاط المعلم شيكيه غضباً وانقض على هذا الذي أغار قاصداً سلبه دجاجاته فأشبعه ضرباً مجنوناً ،
كما يضرب الفلاح المسلوب ، مستخدماً قبضة يده وركبته في كل أنحاء ذلك المعاق الذي لم يكن يستطيع الدفاع عن نفسه ،
ردوهم وصل رجال المزرعة ، وجعلوا يكيدون اللكمات لهذا المتسول ، وبعد أن أنهكهم ضربه ،
لملموه ثم حملوه إلى مخزن الحطب حيث احتجزوه بينما ذهبوا لاستدعاء الدرك .
الدرك :
بقي الجرس ممدداً على الأرض نصف ميت والدم ينزف منه والجوع يعذبه ، حل المساء ثم الليل وبزغ الفجر ،
لكنه لم يكن قد أكل ، عند الظهر وصل الدرك ففتحوا الباب بحذر متوقعين مقاومة لأن المعلم شيكيه .
كان قد ادعي بأن ذلك المتشرد قد هاجمه وأنه لم يستطيع الدفاع عن نفسه إلا بشق النفس .. صاح العريف : هيا انهض ،
لكن الجرس ، لم يعد يستطيع الحراك ، حاول ولكن لم يفلح ،
فظنوا أنه يتظاهر أو يخادع وينوي لهم سوء ، فعنفه الدركيان المسلحان بقسوة ووضعاه عنوة على عكازيه .
الخوف مرة أخرى :
غمره الخوف الغريزي من الشرائط الصفراء ، ذلك الخوف الذي يعتري الطريدة أمام الصياد والفأر أمام القط ،
وبجهود تفوق طاقة البشر استطاع أن يبقى واقفاً ، قال العريف : هيا ،
ثم مشي فتبعه سكان المزرعة بأنظارهم ، وهم يبتعدون كانت النساء يهددن بقبضات ايديهن ،
والرجال يهزؤون ويشتمونه ، أخيراً أخذوه وتخلصا منه …
يأس وحزن :
كان تائه العقل لا يدري ما كان يواجهه ، مرتاعا لا يستطيع فهم ما يجري ،
حين كان الناس يلتقون بهم ، كانوا يتوقفون ليروه وهو يمر ، ويتمتمون : لابد وأنه أحد اللصوص ..
النهاية والموت :
بلغوا مركز المحافظة وكان الليل قد أرخى سدوله ، أما هو فلم يكن قد وصل إلى تلك النواحي في حياته ،
لم يكن يقدر أن يتصور ما حدث له ، ولا ما قد يقع ، كل هذه الأشياء المرعبة غير المتوقعة ، هذه المنازل الحديثة كانت تصيبه بالذعر .
لم ينبس ببنت شفه إذ لم يكن لديه ما يقوله ، لأنه لم يعد يفهم شيئاً ، فمنذ العديد من السنين لم يكن يتوجه بالكلام لأحد ،
لقد نسي تقريباً استخدام لسانه ، وفكره كان شديد التشويش بحيث يعبر بكلمات ، احتجز بالسجن ،
ولم يفكر الدرك بأنه يحتاج إلى طعام ، فتركوه حتى اليوم التالي ،
لكن حين أتوه ليستجوبوه في الصباح الباكر ، كم كان عجبهم كبيراً حين رأوه على الأرض جثة هامدة !!.
إقرأ المزيد من القصص على موقعنا