ولد الإمام الشافعي ثالث الأئمة الأربعة بفلسطين ، وعندما مات والده وهو صغير أخذته أمه إلى مكة المكرمة وهو بعمر سنتان فقط وقد عاش بمكة يتيمًا وفقيرًا ، ولكنه حفظ كتاب الله كاملاً وهو بعمر سبع سنواتٍ فقط ، وهذا يدل على ذكائه وقوة ذاكرته وحفظه ، ثم بعد ذلك أخذ يطلب العلم فهاجر إلى المدينة المنورة مع أمه فاطمة بنت عبد الله الأزدية .
وذهب إلى حيث كانت حلقة الإمام مالك رحمه الله كي يتعلم منه علم الحديث ويسستقي منه أصول الفقه والدين ، ولم يكن الإمام الشافعي حينها يملك درهمًا ولا دينارًا كي يشتري قلمًا وأوراقًا أو حتى لوحًا ليكتب عليه الحديث الذي يسمعه من الإمام مالك ، فكان رحمة الله عليه يجلس في مجلس الإمام مالك ويفتح كف يده اليسرى ويبرز إصبعه السبابة من يده اليمنى ، ثم يبل إصبعه بريقه ويمسح به على يده اليسرى .
ويظل يفعل هذا مع كل حديثٍ يرويه الإمام مالك ، حتى ينتهي الإمام مالك من درسه فلاحظ الإمام ما يفعله هذا الغلام الذي يحضر الدرس معهم ولا أدوات في يده ، لا قلم ولا دواة حبر ولا أوراق ولا أي شيءٍ حتى يدون عليه الأحاديث التي يرويها عن رسول الله ، ولكنه فقط يضع إصبعه في فمه ويمسح به على يده الأخرى في مشهدٍ غريب .
فظن الإمام مالك أن هذا الطفل يعبث ويلهو في درسه ، فلما انتهى الإمام من الدرس قال للشافعي تعالى يا غلام ، فأقبل الشافعي إليه ووقف بين يديه ثم قال الإمام مالك له ماذا تفعل يا غلام ؟ فقال الشافعي أطلب العلم ، فقال الإمام مالك : أهكذا يكون طلب العلم أن تجعل إصبعك في فمك وأن تمسح به على يدك اليسرى ، أين دفاترك ؟وأين أقلامك وأوراقك؟ أين لوحك ؟ .
أجاب الشافعي : والله لا املك درهمًا أشتري به شيئًا من ذلك ، فقال له الإمام مالك لماذا تحضر إذًا ؟ فأنا أسرد في كل مرة أعدادًا كثيرة من الأحاديث فكيف تحفظ تلك الأحاديث وأنت لا تملك أوراقًا ولا أقلامًا ؟ فقال الشافعي إني أحفظها عن ظهر قلب فأنا أكتب الحديث بإصبعي على يدي ثم أمسحه وأكتب الحديث الذي يليه ثم أمسح وأكتب الحديث الذي بعده .
فتعجب الإمام مالك وقال له أتحفظ هكذا كيف ذلك ؟ فقال الشافعي نعم وأحفظها جميعًا وإن شئت أسمعتك كل حديثك اليوم ، فقال الإمام مالك في تعجبٍ وتستطيع أن تفعل ذلك !؟ أجاب الشافعي نعم أفعل ، فقال له الإمام مالك إذن أسمعني .
فأخذ الشافعي يحدث الإمام مالك ويقول حدثنا مالك عن فلان عن فلان عن رسول الله صلّ الله عليه وسلم ويذكر الحديث ثم الحديث الذي يليله ، حتى ساق له كل حديثًا ذكره ما ترك منهم ولا حديثًا ، فانبهر الإمام مالك من شدة حفظ الإمام الشافعي وذكائه فقربه الإمام مالك منه وجعله في الصفوف الأولى .
وقد كانت أم الإمام الشافعي رحمه الله تذهب إلى ديوان أمير البلدة وتلتقط الأوراق التي يلقونها لكي تعطيها للشافعي ، كي يكتب على ظهرها ما حفظ ، وأيضًا كانت تحضر له جلود الإبل لكي يكتب عليها العلم فيا لها من امرأة عظيمة كانت تقدر العلم وبفضلها صار ابنها من أعظم الأئمة .
فلقد جاهد هذا العالم الجليل كثيرًا لكي يتحصل على العلم الذي أنار به الأمة إلى يومنا هذا ، ونحن بفضله هو وسائر الأئمة نتحصل عليه بسهولة يسر ، وقد كان الإمام الشافعي شاعرًا فصيحًا حيث أنشد الشعر في رحمة الله قائلًا :
قَلْبِي بِرَحَمتِكَ اللَّهُمَّ ذُو أُنُسِ *** في السِّرِّ وَالْجَهْرِ وَالإِصْبَاحِ وَالْغَلَسِ
وَمَا تَقَلَّبْتُ مِنْ نَوْمِي وَفي سِنَتى *** إلاَّ وَذكْرُكَ بَيْن النَّفَسِ وَالنَّفَسِ
لَقَدْ مَنَنْتَ عَلَى قَلْبي بِمَعْرِفَةٍ *** بِأنَّكَ اللَّهُ ذُو الآلاءِ وَالْقَدْسِ
وَقَدْ أَتَيْتُ ذُنُوباً أَنْتَ تَعْلَمُها *** وَلَمْ تَكُنْ فَاضِحي فِيهَا بِفِعْلِ مسي
فَامْنُنْ عَلَيَّ بِذِكْرِ الصَّالِحِينَ وَلا *** تَجْعَلْ عَلَيَّ إذاً في الدِّينِ مِنْ لَبَسِ
وَكُنْ مَعِي طُولَ دُنْيَايَ وَآخِرَتي *** وَيَوْمَ حَشْرِي بِما أَنْزَلْت في عَبَس