حين تهدي أحدًا كتابًا ، فإنك لا تهديه فقط ورقا ومدادا وغراء ، إنك تهديه إمكانية عيش حياة جديدة … كريستوفر مورليه.
الظلام يحتوي الوجود :
اسودت السماء وازداد سوادها قتامة ، بنزول السحب الحبلي حتى مستوى الأشجار الحائرة تحت هياج الرياح ، الكون يتمزق ضياء بين الفنية والفنية ، والرعد في كل مكان ، والظلام يحتوي الوجود رويدًا رويدًا !
الضيف الفرنسي وأطروحة الدكتوراه :
رونيه ، ضيفي الفرنسي غير محظوظ ، رونيه حل ضيفا عليّ لمساعدته في إنجاز بحثه ، المعنون : جون جونيه بين البحر والسجن والمقبرة .. وهو أطروحة لنيل الدكتوراه ، لكنه يعتزم من خلاله دخول عالم الكتابة والطبع والنشر ، وقد وعدني بتخليدي على صفحة الإهداء حين يصدر البحث كتابًا .
محطات الحياة والمثلث متساو الأضلاع :
إقامته معي ستدوم أسبوعا ، لكن تخمينات النشرة الجوية للأسبوع الحالي ، تتوقع تساقطات مطرية كبيرة ، وانخفاضًا كبيرًا في درجة الحرارة وهو ما سيحضر إقامته معي في مقهى على الشرفة الأطلنتيكية ، قبالة البحر ، أو في إحدى غرف بيتي في كريان جنان باشا… جون جونيه ، بين كل مدن الدنيا ، كان يبحث عن مدينة تجمع محطات حياته الثلاث ، في مثلث متساو الأضلاع : السجن حيث قضى سبع سنوات من حياته ، والبحر متنفس الصدور بعد كل ضيق ، والمقبرة غرفة النوم الأبدي لكل المتعبين .
السجن والمقبرة والبحر :
بين كل مدن الدنيا ، لم يجد جون جونيه سكنا يطل مباشرة ، على مثلثه الوجودي إلا في هذه المدينة ، ولهذا اشترى ذلك المنزل هناك حيث كان يقضي معظم وقته تحت قبعته متأرجحًا طول الوقت ، على كرسيه الهزاز يرقب من الشرفة ، زوايا المثلث متنقلا بنظره من المقبرة ، حيث أوصى بدفنه ، إلى السجن على اليمين ، إلى البحر الممتد إلى مالا نهاية له ، ثم إلى المقبرة ثانية وثالثة ورابعة .
سعادة رغم الجو الكئيب :
كان ضيفي رونيه يدون كل ما التفظ به ، وكانت أساريره منفرجة وكان سعيدا رغم الجو الكئيب ، ورغم سواد المظلة المشتركة الذي كان يحتمل أن يجعل إحساسنا بالكآبة والسواد مضاعفًا.
هذا هو بيتي :
المطر يهطل بغزارة وهدير البحر يملأ الجو صخبًا ، ولا مجال للتجول في الشوارع والطرقات ، دعوته للذهاب للاحتماء ببيتي فاستجاب ، هذا هو حيي : كاريان أجنان باشا ، بعيدًا عن مثلث جونيه ، لكن رونيه ضيفي لم يكن سعيدًا ، أو ربما فترت سعادته أو ربما متعب ، نزلنا الكاريان في مسالك ملتوية ضيقة ، كما ننزل حافة نهر وادي المخازن ، كان رونيه صامتا يتبعني من الخلف يخطو حيثما خطوت ، ويتوقف حيثما توقفت للاحتماء من نوبة مطرية مضاعفة ، تفضل ! مرحبا ! هذا هو بيتي ..
العمارات الشاهقة وفنون المعمار :
رفع رونيه عينيه إلى الجهة التي نزلنا منها ، حيث العمارات الشاهقة وفنون المعمار والبناء والتعمير ، واستدار بنظره من اليمين إلى اليسار ، فبدا له حيي مثل مجمر وقوده الناس والبراريك والأزبال ، وبدأ الخجل يخامرني .. فتحت الباب وأضأت المكان ، سألني رونيه متعجبًا : هل لديكم كهرباء ؟ طبعا ، هنا يمكنك أن تسكن في أي كاريان ، وسيأتيك الماء والكهرباء وكل الحقوق حتى باب بيتك ..
جدران وبرودة ورطوبة :
جدران الغرفة ازدادت برودة عما كان عليه الحال صباحا ، الجدران انتفخت وطفت عليها خضرة خفيفة ، الصور الكبيرة الملونة المعلقة باللصاق المائي ، قد انفصلت زواياها عن الحائط ، فقد تحولت من بورتريهات إلى منحوتات ، بفعل رطوبة المكان المبدع .
استياء الضيف :
أدركت أن ضيفي مستاء للغاية من جو الضيافة ، لم يعد يسأل عن جون جونيه ، هو فقط يحملق في شكل المكان ، ويحاول تسمية مرافقه ، قال سهوا وهو يتحسس الصدأ الذي علا شباك النافذة الوحيدة الصغيرة المطلة على الخارج : هل شاهدت فيلم الهاربون من اركاتراس ؟ أجبت آليا : نعم ، ولكن السجن سنخرج لرؤيته بعدما يصحو الجو ، نحن رأينا فقط المقبرة والبحر ومنزل جون جونيه .
المطر يمسح كل شيء :
اندهش رونيه وجعد جبينه غير مصدق ، قائلًا : هل بعد كل هذا ، لازالت هناك سجون وراء الكاريانات ؟! .. ازداد غضب المطر ، المطر الآن لا يهطل ، المطر الآن يركل السقوف ، المطر الآن يبصق على زجاج النوافذ ، المطر الآن يمسح كل الشعارات على اللافتات ، المطر الآن يمسح كل شيء .