صهل الحصان بصوت عال وضرب الأرض بقوائمه ، وبسرعة ضربه الأب بالسوط ثم جذب العنان بقوة ، وقال لابنه ليو الجالس بجانبه فوق العربة : أوو..لست أدري ما أصاب هذا الحصان !! لقد كان هادئا .. أما اليوم فهو عصبي بشكل كبير !
امتلاك وتعجب :
وواصل الأب طي العنان ، وضرب الحصان ضربات خفيفة حتى هدأ الحصان وواصل السير ، كان الأب فارساً بارعاً وتمنى ليو ، أن يكبر ويصبح فارساً بارعاً مثله ، كانت العربة تسير في طريق ضيق ، على جانبيه أشجار عالية ، ومن خلفها تمتد الحقول الواسعة على مدى البصر وهتف الأب وهو يشير بيده : انظر يا ليو هذه الأراضي كلها ملكنا ، بما عليها من بيوت وحيوانات ونفوس بشرية .
قال ليو في دهشة : نفوس بشرية !!! .. أجابه الأب : بالطبع .. هؤلاء الفلاحين يعملون في الأرض ، انهم وزوجاتهم وأولادهم عبيداً لنا .. يورثون من أب إلى ابنه ، ويمكن أن يبيعهم السيد إلى سيد آخر ، وظل ليو مدهوشاً وهو يقول : كل هؤلاء الناس !! .. قال الأب : طبعاً.. كل الفلاحين في روسيا هم عبيد يملكهم السيد صاحب الأرض .
تساؤلات بدون اجابات :
قال ليو وقد تحركت بداخله مشاعر غريبة : ولكن ألا يشعرون بالحزن يا أبي ؟. انهم بذلك أشبه بالحيوانات ..ألا يريدون الحرية ؟ ، قال الأب وهو يضرب الحصان بالسوط مرة أخرى : كلام فارغ .. العبيد لا يفكرون إلا في الطعام والمال ، ولا يخافون الامن الضرب بالسياط ، إنهم لا يعرفون حتى ماذا تعني كلمة الحرية ، ولا قيمتها .
وواصلت العربة سيرها ، كانت الكونت تولستوي ، أبو ليو يملك أرضاً واسعةً ، وكان الفلاحون منتشرون فيها لا يفكون عن العمل ، يحرثون ويبذرون ويحصدون ، وفكر ليو في نفسه : يا إلهي .. سوف أصبح مالكا لكل هؤلاء الناس ، كيف يمتلك الانسان إنسانا مثله؟!
حياة ليو وهواياته وأحلامه :
كان ليو لا يقيم في الريف كثيراً ، ولكنه يتلقى تعليمه في احدى المدارس الداخلية ، في بطرسبرج العاصمة الكبيرة ، كان أبوه يريده أن يصبح ضابطا عسكرياً مثله ، ولكن ليو برغم جسده المتين البنيان ، وقامته العملاقة كان يمتلك قلباً رقيقاً ، ويهوى قراءة الشعر والحكايات ، والأغاني الحزينة ، كان يتساءل دائماً عن معنى السعادة ، والحب والشقاء ، والموت .. وكان أبوه يريده عسكرياً صلباً .. يرث الأرض ، ويحكم العبيد ويخوض المعارك ، ولكن ليو كان يجلس في الليالي الطويلة ، ويكتب الكثير من الكلمات لعله يعرف اجابة الأسئلة التي تؤرقه .
العبودية :
توقفت العربة ، وقفز الأب إلى الأرض ، وأشار إلى ليو ألا يقفز حتى لا يتسخ حذاؤه بالطين ، وأقبل عليه أحد الفلاحين مسرعاً ، كان فلاحًا شابًا ، قويًا إلى حد كبير ، ولكنه يلبس ملابس رثة ملوتة بطين الأرض ، وانحنى مرة أمام الأب ، ومرة أخرى أمام ليو ، وهو يقول : مرحبا بك يا سيدي الكونت ، ومرحبا بك يا سيدي الصغير ، إنه لشرف لنا أن تمروا لرؤيتنا نحن الفلاحين المساكين .
وضع الأب يده في خاصرته ، وهز سوطه في الهواء وقال في تعال للفلاح : ماذا تبذرون اليوم ؟.. قال الفلاح في خضوع : نحن نبذر قمحاً يا سيدي الكونت .. فقال الأب بتعال في نفسه : في العام الماضي لم يكن المحصول جيداً ، ولو استمر الحال هكذا فسوف أجلدكم جميعاً بالسياط ، قال الفلاح في تذلل : يا سيدي كن رحيماً بنا ، لقد كان الشتاء قاسياً علينا وعلى المحصول ..
كارثة وفزع :
أحس ليو بالخجل من قسوة أبيه ، ولكنه لم يتكلم ، كان الحصان هو الذي صهل فجأة ، كأنه يعلن احتجاجه ، وضرب الأرض بقوائمه ، وقبل أن يتمكن الأب من الامساك بالعنان انطلق الحصان يجري بسرعة مجنونة ، وهتف الأب : أسرع بالقفز من العربة يا ليو .
ولكن العربة كانت مسرعة والطريق ضيقة ، ولو حاول القفز فسوف يصطدم بهذه الأشجار ، ووقف ليو حائرًا ، كان العنان بعيدًا عن متناول يديه ، ماذا يفعل ؟!.. تجمد ليو من الرعب والعربة تنطلق به إلى مصيرها المحتوم .
والتفت ليو إلى الوراء بحثًا عن إي مساعدة ، وشاهد الفلاح الذي كان يحدثهم ، كان يعدو خلف العربة ، ولكن الحصان كان مسرعًا ، والعربة تهتز ، وتصطدم بأحجار الطريق وتوشك أن تنقلب ، ولكن الفلاح واصل الجري بقوة ، قدمان عاريتان ، تغوصان في الطين ، وكان يواصل الاقتراب ، أجل كان يقترب من العربة ، ومن ليو ، وكان وجهه ممتلئ بالعرق ، ولكنه يندفع حتى أصبح في موازاته تقريباً ، وهتف به : تشجع يا سيدي .
شجاعة وإنقاذ :
واستمر يجري حتى أصبح في موازة الحصان .. ومد يديه وأخذ يحاول الامساك بالعنان من المقدمة حتى حرك الحصان رقبته في عنف جعلت الفلاح يفقد توازنه ، ولكنه لم يسقط ، ظلت يده قابضة والعربة تجره على الأرض ، وشاهده ليو وهو يقاوم السوط ، كان قويًا بدرجة كبيرة ، وعبثًا حاول الحصان التخلص من قبضته .
واضطر الحصان أن يقلل سرعته شيئًا فشيئًا ، واستعاد الفلاح توازنه ، وقبض بقوته على الأعنة حتى توقف الحصان نهائيًا ، واسترد ليو أنفاسه أخيرًا ، قفز ليو من العربة كان الفلاح قد جلس على الأرض وهو يلتقط أنفاسه بصعوبة ، وبرغم ذلك كان قبضًا على الأعنة ، وتأمله كان قادماه داميتين ، وملابسه ممزقة لأن الحصان قد جره على الأرض مسافة طويلة .
وكذلك يداه هناك خيط من الدم ينسال من بين أصابعه ، وقال ليو في هلع : إنك مصاب ، إنك مليء بالجروح ، في ساقيك وقدميك ويديك ولكن الفلاح قال في بسيطه : أنا بخير يا سيدي ، إنه لا شيء ، المهم أنك في خير وسلام .
الحرية :
وأقبل الكونت تولستوي وهو لا يعدو لاهثًا ، واحتضن ليو وهو يهتف : ابني الحبيب .. حمدًا لله على سلامتك ..، وابتسم ليو وهو يحتضن أباه : أنا بخير يا أبي ، لقد أنقذ الفلاح الطيب حياتي ..
التفت الأب نحو الفلاح بوجه مختلف ، خال من القسوة ، ومن التعالي ، وهتف : كيف أشكرك أيها الفلاح الطيب ، اطلب ما تريد مكافأة لك ، هل تريد ذهبًا ؟ ، قال الفلاح في هدوء : كلا يا سيدي الكونت وأشكرك كثيرًا ، قال الأب : كلا .. يجب أن تطلب شيئًا ، هل تريد أن تمتلك أرضًا ؟.. هل تريد بيتًا يحميك من برد الشتاء ؟ .. لابد أن تطلب شيئًا .. سكت الفلاح قليلاً وبرقت عيناه ، وقال في حرارة : أريد حريتي أيها السيد .. أريد الحرية .
بعد مرور السنوات :
ان ليو الذي كبر فيما بعد وأصبح الكونت ليوتولستوي ، لم ينس هذا الفلاح أبدًا ، ولم ينس هذه الكلمات الحارة ، لقد أصبح واحدًا من أشهر أدباء العالم ، ولكنه كان يعرف أنه مدين بحياته لهذا الفلاح ، فكتب عنه وعن بقية الفلاحين كثيرًا ، وطال لهم بالعدل وبحقهم في الحرية والمساواة ، وطبق هذا على نفسه ، فحرر كل الفلاحين الذين يملكهم من العبودية ووزع عليهم الأرض ، وعندما ثار عليه المجتمع لم يتراجع ، وظل يدافع عن آرائه ويطالب برفع الظلم عن الفلاحين ، الذين يزرعون للجميع ولا يحصدون شيئًا لأنفسهم .
بعدة وفاته الأديب ليو تولستوي :
وقد تحققت مطالب ليو تولستوي ، بعد موته وألغيت العبودية ، من روسيا كلها ، وأصبح الفلاحون أحرارًا ، ولم ينس أحد منهم ليو تولستوي .. كاتب : الحرب والسلام ، والبعث ، وأنا كارنينا .. وغيرها من الأعمال الأدبية والإنسانية العظيمة .. ولم ينس هو أبدًا ذلك الفلاح الذي علمه أن الحرية هي اثمن من كل شيء .