للقصائد القديمة عبق مميز ، وسحر خاص بالكلمات والمعاني جعلها على قيد لحياة بمرور الزمن ، رغم وفاة واندثار من كتبها ، وبعض الكلمات ترسم صورًا يمكن تخيّلها مع قليل من التأمل مثل قصيدة البحار العجوز والتي يسرد جزء منها الكلمات التالية :
يومًا بعد يوم بقينا ، لا أنفاس ولا حركة .. ثابتين كسفينة مرسومة على سطح بحر مرسوم ، الماء الماء على امتداد البصر .. وجوانب السفينة تضيق علينا الخناق ، الماء الماء حيث ننظر .. وما من قطرة صالحة للشرب .
هذا الاقتباس السابق صاغه الرسام جوستاف دوري بإحدى أعماله الفنية ، لأحد المشاهد التي وردت بقصيدة البحار العجوز التي ألفها صامويل كولديج ، وجدير بالذكر ، أن تلك القصيدة تُعد واحدة من أكبر وأغرب الكتابات التي يمكن أن تقرأها ، ويمكن البحث عنها باسم Rime of the Ancient Mariner ، ولتلك القصيدة قصة مميزة.
تتحدث قصة القصيدة عن ثلاثة من الشباب ، خرجوا في طريقهم إلى حفل زفاف ، وأثناء توجههم إلى الحفل وقف عجوز أمام باب المنزل المقام به الاحتفال ، وحاول أن يتحدث معهم ويسرد لهم قصته ، ولكن لا أحد منهم استمع إليه ، ولم يره أحد ، عدا شاب واحد وقع تحت تأثير عيني العجوز فرآه واستمع له ، حيث رأى في عينيه انعكاس غريب لروحه ، وهذا هو ما دفعه للوقوف معه وسماع قصته.
روى البحار العجوز أنه أثناء إحدى الرحلات برفقة طاقم سفينته في إحدى المناطق الجليدية الخطرة ، حاول هؤلاء البحارة أن يشقوا طريقهم وسط الجليد حيث كان الهلاك هو النهاية الوحيدة لهم ، ولكن ظهر فجأة طائر غريب الشكل والهيئة ، بدأ يرشد البحارة على السفينة إلى الطريق الصحيح حيث النجاة والأمان .
ولكن ما حدث عقب ذلك كان مؤسفًا ، فالبحار بسبب غروره وكبريائه وكيف لطائرٍ لا حول له ولا قوة أن يرشدهم ، قام وأطلق سهمه على الطائر فسقط ميتًا على الفور ، ولم تلبث الرياح أن توقفت فجأة ، وسطعت شمس حمراء ضخمة للغاية في كبد السماء ، والتي رغم وجودها أحاط الجليد بالسفينة كاملة.
ثم بدأت بعض الكائنات سوداء اللون وغريبة الشكل تتجمع أسفل السفينة حتى تمنع الجميع من الهرب ، وبمرور الوقت بدأ البحارة يشعرون بالعطش الشديد ، حتى أنهم بدؤوا يتساقطون موتى واحدًا تلو الآخر ، فألقوا باللوم على البحار الذي قتل الطائر وقاموا بتعليقه بحبل سميك في رقبة البحار ، حتى يتذكر دومًا أنه سبب هلاكهم.
بالفعل لقي طاقم السفينة حتفه بالكامل ، عدا البحار الذي أطلق السهم ظل لسنوات طويلة حيًا لا يعرف لماذا تركه الموت وحيدًا على ظهر السفينة ، يحيط به الماء من كل جانب ولا يستطيع شربه ! وتتربص به الكائنات السوداء أسفل السفينة ، وتتراص جثث رفاقه حوله صامتة على ظهر السفينة ، لدرجة أنه جرح ذراعه وبدأ في شرب دمائه حتى يقضي على جفاف لسانه ، ليستطيع الصراخ ولكن كان ذلك دون فائدة.
بالنهاية ومع مرور الوقت ، بدأ البحار يستكين إلى جانب السفينة ويتأمل ما حوله وينظر للكائنات القابعة أسفل السفينة ، ورغم أنها كانت أصغر منه حجمًا وأكثر قبحًا منه ، إلا أنه وجد فيها شيئًا من الجمال ، وأثناء ذلك ، لاحت على امتداد البصر سفينة ضخمة شبحية الشكل ويقودها شخصين ، هما هيكل عظمي أسود وسيدة فضية الشعر يرمزا للحياة والموت.
وظهرت بيد السيدة أحجار نرد قامت بإلقائها على سطح السفينة قائلة للموت بأنها هي من كسبت الرهان ؛ ذلك أن البحار عندما تأمل الحياة والواقع حوله وجد فيها الأمل وليس الموت فقط ، فتراجع الموت مهزومًا.
ثم أطلقت السيدة الفضية ثلاث صافرات ، فبدأ كل من على متن السفينة في الاستيقاظ ، وأخذ كل منهم موضعه عليها ، وعادوا للإبحار بالسفينة من جديد رغم كثافة الجليد حولها ، وهنا حاول البحار التحدث معهم ولكنهم لم يسمعونه ، فاكتشفت أنهم أحياء ولكن في عالم آخر وبشكل وهيئة جديدة ، هم أحياء كالملائكة ولكنهم لا يرونه.
عقب ذلك قام كل من البحارة والموت وسيدة الحياة الفضية ، بإيصال البحار إلى قارب يقوده ناسك في عرض البحر ، وبمجرد نزول البحار إلى القارب اختفت السفينة بكل من عليها ، وهنا أدرك البحار بأنه لابد أن يتذكر قصة نجاته هذه ، وأن يحكيها لكل من يقابله ، ولكنه أدرك الحقيقة بمجرد وصوله للشاطئ.
تحدد مصير البحار بالحياة أو الموت بمجرد لعبة نرد ، فهو لم يكن حيًا بالمعنى المعروف ؛ فقد حُكم عليه بالبقاء إلى الأبد هائمًا على الأرض دون أن يتمكن أي شخص من رؤيته ، سوى النفوس التائهة والضعيفة والقابعة بين الحياة والموت ، فقد لُعن إلى الأبد بسرد قصته.
وبمجرد أن انتهى من سرد روايته للشاب ، تراجع في الظلام باحثًا عن روح أخرى يقص لها حكايته ، وتراجع الشاب مبتعدًا عن المنزل المقام به حفل الزفاف ولم يعرف الشاب شعور الفرح مرة أخرى للأبد.