إذا نظرت إلى أبرع عمليات النصب في التاريخ ستتعجب من سلاستها ، وعدم تعقيدها ، فكل ما يحتاجه النصاب ذكاء عالي ، وطمع من الضحية ؛ لكي يستطيع إتمام مهمته ، وبطل قصتنا اليوم هو أسطورة النصب فيكتور لوستيج ، الذي استطاع أن يبيع برج إيفل مرتين ، وينفد من العقاب .
رجل أقل ما يقال عنه أنه داهية ، متحدث لبق ، يجيد خمس لغات ، وسامته وهندامه لا يثيرون الشك والريبة في نفوس من يتحدث إليهم ، يعرف كيف يتعامل مع كل شخص ، وماذا يستطيع أن يأخذ منه ، ومتى يفعل هذا ، كان الحظ حليفه دائمًا في كل عمليات النصب التي كان بها ، ولكنه لم يحالفه في نهايته المأساوية .
من هو فيكتور لوستيج :
اسمه فيكتور لوستيج ، ولد عام 1890م بجمهورية التشيك ، أشاع أن والده كان عمدة بلدة صغيرة تدعى هوستيني ، وبرع منذ صغره بعمليات النصب البسيطة ، وفي سن الجامعة كان يقامر بلعبتي البوكر والبلياردو ، وترك دراسته متجها إلى عالم النصب .
كانت الرحلات السياحية تنتشر أن ذاك بين أوروبا وأمريكيا على متن السفن المبحرة عبر الأطلسي ، قرر فيكتور أن يبدأ عمله على متن تلك السفن ؛ فكان معظم ضحاياه من الأثرياء الذين يبحرون على الدرجة الأولى ، والذين لا يتصورا أن الشاب الوسيم الذي يحدثهم بلباقة ورقي ، ما هو إلا نصاب محترف.
كان لوستيج ماهرًا بحق ، رجلًا حاد الذكاء ، لا يفوت أي معلومة تمر من أمامه مرور الكرام ، استطاع أن يخدع العشرات بأكثر من اسم مستعار ، وظل لوستيج يتصيد فرائسه على متن الرحلات السياحية حتى ألغتها أمريكا في نهاية الحرب العالمية الأولى ، فقرر الاستقرار بها.
ولم يمض وقت طويل حتى أصبح اسمه متداولًا في دوائر التحقيق بأربعين مدينة أمريكية ، لكن لم يستطيع أيا منهم ايقافه ، فكان دائمًا لا يترك أثر يشير إليه ، وقد مارس نشاطه تحت اسم الكونت ، وهو الاسم الذي ترك صدى كبير في ولايات أمريكا.
ماكينة نسخ العملة من أنجح عمليات النصب :
كان لهذا الاختراع الذي أعده لوستيج أثرًا كبيرًا في اجتذاب الضحايا الطامعين ، فقد عرض عليهم صندوقًا خشبيًا به ماكينة لنسخ العملة ، تنسخ مائة دولار كل 6 ساعات ، وهو بالطبع ما لم يحدث .
فقط ظل عمل الماكينة لمدة 12 ساعة ، وبعدها بدأت في طباعة الأوراق البيضاء ، وذلك لأن مخزون العملة الحقيقي الذي وضعه فيها لوستيج لم يكون سوى 200 دولار ، استطاع أن يبيع صندوق خشبي به 200 دولار بـ 30000 دولار. يا لا هذا الرجل!
صفقة بيع برج إيفل :
في أغرب عملية من عمليات النصب استطاع هذا النصاب أن يبيع برج ايفل ، فبعد أحداث الحرب العالمية خرجت فرنسا منهكة ، وقد تأذي برج إيفل كثيرًا ، مما دفع الحكومة تفكر في إصلاح البرج وترميمه ، وتم نشر الخبر بأحد الصحف الرسمية ، قد يبدو الخبر عاديًا لأي قارئ ، ولا يهم الكثيرين ، ولكن لوستيج لم يكن كغيره من القراء ، فقد استغل هذا الخبر ، وفكر في حيلة ماكرة يقتنص بها المال .
جمع لوستيج ستة من تجار المعادن في إحدى الفنادق رفيعة المستوى ، وأظهر لهم بطاقة مزورة تخوله لتمثيل الحكومة ، والتحدث بلسانها ، فقد ادعى أنه نائب المدير العام لوزارة البريد والتلغراف ، وأخذ يتحدث بطلاقة عن مشروع إصلاح البرج وترميمه .
وهو بالفعل الأمر الذي قد نشر بالجرائد قبلها مباشرة ، ولكنه أوضح أن الأمر سيحتاج مبالغ طائلة ، لذا تفكر الحكومة في تقطيع البرج وبيعة خردة ، خاصة بعد أن آل للسقوط ، وأخذ لوستيج يتابع اهتمام التجار وترقبهم حتى يختار ضحيته من بينهم ، وبالفعل وقع الاختيار على التاجر أندريه بويسون ، وكان تاجرًا مغمورًا يحلم بالمال والشهرة اللذان سيصل إليهما بعد إتمام تلك الصفقة ، ولكن زوجة بويسون لم ترتاح للأمر المحاط بالسرية والغموض ، وأفضت إلى زوجها بشكوكها حول الأمر.
فتردد في إتمام الصفقة ، ولكن لوستيج الخبير الذي واجه الكثير من هذه المواقف استطاع إقناعه ، بالتلميح إلى كونه موظف فاسد يتقاضى الرشوة ، لذا يلزم السرية ، وهنا اقتنع الضحية ، وبدلًا من أن يدفع ثمن البرج فقط ، دفع الرشوة أيضًا !
بعدها شعر بويسون بالخزي ، وخجل من نفسه ، وقرر عدم إبلاغ الشرطة ، بينما لوستيج فر هاربًا بالقطار المتجه إلى فينا ، ولم لما يجد نفسه مطلوبًا من العدالة ، عاد بعد شهر واحد ليبيع البرج مرة ثانية إلى ضحية جديدة من تجار المعادن ، وبنفس الطريقة أتم خطته ، ولكن اختلفت ردة فعل الضحية تلك المرة ، فلم يؤثر السكوت ، وذهب لإبلاغ الشرطة ، ومعه العقود والأوراق التي تثبت عملية النصب ، ولكن استطاع لوستيج الهرب مثل كل مرة ، ولم تعثر عليه دوائر التحقيق بالشرطة .
جرأة النصاب توقع آل كابوني في شباكه :
تخطت جرأة لوستيج كل الحدود ، فقد وصلت عمليات نصبه إلى عقر دار زعيم المافيا الأمريكية آل كابوني ، والذي أقنعه باستثمار مبلغ 50000 دولار في صفقة سندات ، وأبقى أرباحها بحوزته شهرين كاملين.
ولكنه خشى من بطش المافيا ، فأعادهم مدعيا أن الصفقة قد خسرت ، والغريب أن آل كابوني أعجب كثيرًا بموقف لوستيج وقرر منحه 5000 دولار كمكافأة له ، وهكذا لم يخرج لوستيج خاسرًا من تلك الصفقة .
نهاية أشهر نصاب في العالم :
لا أبالغ حين أقول أن فيكتور لوستيج أشهر نصاب في العالم ، فقد كان بارعًا بحق ، حتى أنه أسس لعلم النصب بوضع عشرة من المبادئ الهامة ، ودونها في الكتاب الأكثر مبيعًا الوصايا العشر للرجال المحتالين .
تمكنت الشرطة من القبض على لوستيج في أمريكا عام 1943م بتهمة تزييف النقود بعد وشاية من صديقته التي تركها ، وعاد إلى حبيبته القديمة ، لكنه تمكن من الفرار ، وتم اعتقاله بعد بشهر ، وحكم عليه بالسجن لمدة عشرون عامًا ، وتم إيداعه بأحد سجون ميسوري وهو سجن الكاتراز لقضاء فترة العقوبة ، ولكنه لم يكمل المدة لوفاته عام 1947م بسبب تقلص رئتاه.
وهو الأمر الذي لم يصدقه المسئولين بالسجن ، فقد كانوا يعتقدون أن يدعي المرض في محاولة جديدة للإفلات من العدالة ، والفرار من السجن ، ولذا لم يولوا شكواه الدائمة اهتمامًا إلا بعد أن تمكن المرض منه ، ولعل السحر في هذه الحالة انقلب على الساحر ، فمن يدرى لو كان مسجونًا بتهمة أخرى غير النصب ، ربما كانوا صدقوه ، ولكن تلك هي الحياة.