نعيش في هذه الحياة في سباق دائم ، سباق مع النجاح ، مع الفشل ، مع الحب ، دائمًا ما نتبارى ، وهناك من يصل أولًا ، إن لم نكن نحن ، فغيرنا ، ولعل أكثر الأشياء مللًا في تلك السباقات هي الانتظار .
فحينما تنطلق صفارة البدء ، يصبح النجاح أو الفشل على مرمى قريب ، وبهذا نكون قد تخلصنا من عناء التفكير والانتظار ، هل سنفوز ؟ ، هل سنخسر ؟ ، هل ستتغير حياتنا إلى الأفضل ؟ ، كلها تكهنات مؤلمة ، تخلق حالة من الضيق والملل ، ولكن صفارة البدء تخلق نوعا من التحفيز والانطلاق .
وبطلنا اليوم ظل منتظرًا فترة طويلة حتى أتته صفارة البدء وانطلق ، ولكن انطلق دون أن يدرك أنه انطلق ، ودون أن يشعر بلذة هذا الانطلاق ، إنه المتسابق أو لنقل إنها جثة المتسابق فرانك هايز .
جثة فرانك تتربع في المقدمة :
فرانك هايز هو واحد من المتسابقين الذين انتظروا طويلًا حتى يتحقق حلمهم في الفوز ، أحبه الخيول كثيرًا ، وحاول أن يأخذ منها الفرصة ، ولكنها لم تعطيه ، فقد حلم كثيرًا أن يفوز بسباق للخيل ، ومن بعدها يحقق الشهرة والمجد ، ولكن لم يستطيع ترجمة حلمه إلى الواقع رغم محاولاته الكثيرة للفوز ، ودخوله العديد من السباقات ، إلا أنه لم يفز في حياته قط .
وفي عام 1923م ، شارك هايز في سباق للخيل أقيم بمدينة نيويورك ، وحينها كان قد بلغ الخامسة والثلاثين من عمره ، وأنزل وزنه بشكل ملحوظ ، ليستطيع إحراز هدفه ، وامتطى فرسًا يدعى قبلة حلوة تعود ملكيتها لأحد النساء الأثرياء بأمريكا .
ولكن لسخرية القدر بعد أن انطلق المتبارون ، واجتازوا الحواجز ، ليسجل كل منهما رقمًا قياسيًا يدفعه إلى نقطة الوصل ، أصيب هايز بنوبة قلبية ، مات على إثرها ، ولكنه لم يسقط من على حصانه ، ظل ممتطيًا كفارس صلب لا تقهره الصعاب ولا بعد المسافات .
والغريب في الأمر أن الفرس استطاع اجتياز باقي الأحصنة براكبه الغائب عن الدنيا ، ليصل إلى نقطة النهاية وسط تصفيق الجمهور ، الذي لم يلاحظ ما حدث للفارس ، إلا حينما ذهبت صاحبة الجواد لتهنئه أخيرا بالفوز .
فاز فرانك واستطاع أن يحقق حلمًا طالمًا سعى له ، فاز دون أن يدرك ذلك ، ويستمتع بمذاق النجاح ، لعل موته في تلك اللحظة سخرية القدر ، ولعله حظه العاثر ، وقد يكون من حسن حظه أن يخلد اسمه ميتًا كما لم يخلد حيًا ، فأنت تحقق شيئًا أفضل من لا شيء.
جثة ربيعة تحمي نساء العرب :
ولأن الشيء بالشيء يذكر ، لم تكن جثة فرانك هي الجثة الوحيدة التي لعبت دورًا بارزًا ، فهناك جثة في تاريخنا العربي لفارس شاب يدعى ربيعة بن مكدم من بني فراس ، وهم مضرب الأمثال في القوة والشجاعة ويقول فيهم سيدنا عمر بن أبي طالب : وودت والله أن لي بجمعكم هذا وأنتم مائة ألف ، ثلاثمائة من بني فراس بن غنم .
وقد هاجروا بعد الإسلام إلى مصر ، واستقروا بصعيدها ، ويحكي أن ربيعة خرج من بعض من قومه لحراسة هودج النساء الذاهبين إلى قومهم ، ولما شارفوا على الوصول ، طلع عليهم رجال من بني سليم ، أرادوا سبي نسائهم ، لكن ربيعة دافع عنهم ببسالة وشجاعة منقطعة النظير ، وقتل منهم عددًا كبير ، وأوصل النساء بخير وسلامه إلى وجهتهن.
وبعد عدة سنوات شاء القدر أن يتكرر نفس الموقف ، بينما ربيعة يحمي هودج النساء ، طلع عليهم فرسان بني سليم ، وقاتلهم ربيعة كما فعل بالمرة السابقة ، لكنه أصيب ، وكان جرحه نافذًا ، فأخبر النساء أن يكملوا مسيرتهن ، وهو سيقف على فرسه ، ويتكأ على رمحه ، حتى يحول بين بني سليم وبينهم ، لأن المهاجمين لن يجرؤ على الهجوم ، إذا رأوه.
ولكنه مات وهو متكأ ، وبالفعل وصل النساء إلى قومهم ، ولم يعرف بموت ربيعة ، إلا حينما رمي أحد فرسان بني سليم الفرس بسهم ، فتحركت ، وسقط عنها فارسها ، وهكذا استطاع الفارس حماية النساء ، وهو ميت ، وهكذا اشتهر ربيعة بين العرب ، بأنه الرجل الوحيد الذي حمى النساء حيًا وميتًا .