في زمن من الأزمان الماضية ، ولما كان للشعر مكانة خاصة في نفوس العرب ، أرسل الخليفة في طلب شعراء عصره ؛ ليستمع إلى ما صاغوه من شعر ونثر ، فقد كان للشعر مكانة خاصة في العصور السالفة ، ومرتبة تلي مراتب الخلفاء والأمراء ، وكان الحكام يغدقون على الشعراء الأموال والهدايا ، وكان الشعر المنتشر في بلاط الحكام حينها هو المديح ، ومن الشعراء من اغتنى بفضل شعره.
كان هناك رجلً فقيرًا يتغنى بشعره في الأطراف ، وبينما هو ذاهب ليملأ جرته من النهر ، رأى مبعوث الخليفة ، ومعه عدد من الشعراء ، فتبعهم إلى بلاط الخليفة ، حيث قابلهم الخليفة ، وأطعمهم ، وبالغ في إكرامهم ، ولكن استرعى انتباهه هيئة صاحب الجرة الفقير ، فقد كانت ثيابه رثه ، ولا يبدو عليه أنه من طبقة الشعراء .
فلما سأله الخليفة عن اسمه ، وسبب قدومه ، أجابه : ولما رأيتُ القومَ شدوا رحالهم إلى بحرِك الطَّامي أتيتُ بِجرتّي ، فأعجب الخليفة ببلاغته في الشعر ، وأمر أن تملأ جرته بالذهب والفضة ، ولكن بعض الشعراء الطامعين استكثروا عليه الجرة بما فيها ، فأخذ يقولون أنه فقير ، لا يدرك قيمة المال ، ولن يحسن استخدامه ؛ لذا يكفيه القليل ، ولكن نهرهم الخليفة ، وقال هذا ماله يفعل به ما يشاء .
ولما خرج صاحب الجرة أخذ يوزع المال على الفقراء والمحتاجين ، ولم يبقي لنفسه شيئا ، فأرسل الخليفة في طلبه ثانية ، وتساءل عن سبب تفريطه في منحة الخليفة ، فأجابه : يجود علينا الخيرون بمالهم ، ونحن بمال الخيرين نجود ، فابتسم الخليفة معجبا جوابه ، وأمر أن تملأ له الجرة عشر مرات ، وقال له الحسنة بعشر أمثالها .
فأنشد الشاعر الفقير بعض الأبيات الشعرية ، التي مازلنا نحفظها حتى الآن ، ونرددها عند فعل الخير ، والجود مع الآخرين وقال فيها :
اﻟـﻨﺎﺱ ﻟﻠﻨﺎﺱ ﻣﺎﺩﺍﻡ ﺍﻟﻮﻓــــــﺎﺀ ﺑﻬـﻢ * ﻭﺍﻟﻌﺴﺮ ﻭﺍﻟﻴﺴﺮ أوقات ﻭﺳـﺎﻋﺎﺕ
ﻭأﻛﺮﻡ ﺍﻟﻨﺎﺱ ﻣﺎ ﺑﻴﻦ ﺍﻟﻮﺭى ﺭﺟـﻞ * ﺗﻘضى ﻋلى ﻳﺪﻩ ﻟﻠﻨﺎﺱ حاجــــات
ﻻ ﺗﻘﻄﻌﻦّ ﻳﺪ ﺍﻟﻤﻌﺮوف ﻋﻦ أﺣـــﺪ * ﻣـﺎ ﺩﻣـﺖ ﺗـﻘﺪﺭ ﻭﺍلأـﻳـﺎﻡ ﺗـــﺎﺭﺍﺕ
ﻭﺍﺫﻛﺮ ﻓﻀﻴﻠﺔ ﺻﻨﻊ ﺍﻟﻠﻪ إﺫ ﺟﻌﻠﺖ * إﻟﻴﻚ ﻻ ﻟﻚ ﻋﻨﺪ ﺍﻟﻨﺎﺱ ﺣﺎﺟـــــﺎﺕ
ﻓﻤﺎﺕ ﻗﻮﻡ ﻭﻣﺎ ﻣــﺎﺗﺖ ﻓﻀﺎﺋﻠـــﻬﻢ * ﻭﻋﺎﺵ ﻗﻮﻡ ﻭﻫﻢ ﻓﻲ ﺍﻟﻨﺎﺱ أﻣﻮﺍﺕ
وفي تلك القصة لم يذكر اسم الشاعر ، ولا الخليفة ، فكل ما يهمنا فيها هو الفعل ، وليس الأشخاص ، فالفقير جاد بماله ، والغني جزاه الكثيرَ ، وهذا فعل العبد مع أخيه ، فكيف بفعل الرب مع عبده إن جاد ! ، جودوا فإن في الصدقة خير لو علمتموه لجعلتموها منهجا ، وحياة.