بين القرنين الثالث عشر والسادس عشر نمت الدولة العثمانية من إمارة تركية صغيرة في الأناضول إلى إمبراطورية مترامية الأطراف ، سيطرت على الأراضي في شرق أوروبا وغرب آسيا وشمال أفريقيا ، وكان هذا التحول مصحوبًا بتطوير أسلوب معماري عثماني مميز ، عبر تلك الأراضي المتنوعة التي تم أصبحت تحت الحكم العثماني .
والتي لم يكن لها الكثير من القواسم المشتركة من حيث اللغة أو الدين أو الثقافة ، كانت المباني ضخمة وكبيرة وكانت تتميز بقباب ضخمة ومآذن ذات مآزر رقيقة ، تظهر للناظر مظاهر العظمة العثمانية ، وقد كان أكثر الأفراد مسؤولية عن تطوير وصقل النمط المعماري العثماني الكلاسيكي هو المهندس سنان ، الذي عمل كمهندس معماري كبير في الإمبراطورية العثمانية من عام 1539م حتى وفاته .
نشأته وميلاده :
ولد سنان أغا عام 1488م في قرية أغيرناص التابعة لولاية قيصرية لعائلة مسيحية في جنوب شرق الأناضول ، ويقال أنه كان من أصل يوناني أو روماني ، وعندما كان عمره 21 عامًا التحق بقوة مشاة عثمانية من النخبة ، حيث تم تجنيده هو وغيره من المراهقين والشبان من الأراضي التركية في الإمبراطورية واعتنقوا الإسلام ، وقد شارك سنان في الحملات العسكرية للملك سليمان العظيم ، كمحارب وكمهندس .
وعينه الملك سليمان لكي يطور خبرات البناء ، التي استخدمها لاحقًا في العمارة العثمانية ، وقد حصل المهندس سنان على التعليم التقني وأصبح مهندس عسكري ، ثم ارتقى بسرعة في الصفوف ليصبح أول ضابط وقائد في الجيش يحمل لقب شرفي .
فقد صقل مهاراته المعمارية والهندسية أثناء حملته مع الإنكشاريات ، وأصبح خبيرًا في بناء التحصينات بجميع أنواعها ، فضلاً عن مشاريع البنية التحتية العسكرية مثل الطرق والجسور والقنوات المائية في عمر الخمسين تقريبًا ، وتم تعيينه كمهندس معماري كبير ، فقام بتطبيق المهارات الفنية التي اكتسبها في الجيش في إنشاء المباني الدينية الجميلة ، والهياكل المدنية بجميع أنواعها .
وظل في هذا المنصب لمدة تقرب من خمسين عامًا ، وعندما كان سنان في السابعة والأربعين من عمره عينه الملك سليمان كمهندس معماري في اسطنبول ، وحينها شرع سنان في سلسلة من المباني المثيرة للإعجاب بشكل متزايد ، فبنى المساجد والقصور والحمامات والمدافن ، وغيرها من الأبنية التي ساهمت في تشكيل الحضارة العثمانية الرائعة .
أهم أعماله :
وكان أول عمل كبير له هو مسجد كبير يسمي مسجد شاه زادة في اسطنبول ، وهو مخصص لذكرى ابن سليمان ووريثه الذي توفي عن عمر 22 عامًا ، وأحد أهم أعمال سنان أيضًا كان مجمع جامع السليمانية ، وهو لا يزال سمة أساسية في أفق اسطنبول الآن حتى أنه أكبر من آيا صوفيا ، وهي كنيسة بيزنطية تم تحويلها إلى مسجد في العهد العثماني .
إن قلب المبنى عبارة عن قبة شاسعة تحيط بها دائرتان ، والتي تتحدان معًا لتشكلا مساحة داخلية مذهلة ، والأرض التي تم بناء مجمع السليمانية عليها تتجه منحدراتها نحو مضيق البوسفور ، وهذه واحدة من مواهب سنان المعمارية حيث كانت قدرته رائعة في البناء على التضاريس الصعبة ، ويعتبر مسجد السليمية الذي بني في أدرنة بين 1569م و1575م تحفة المهندس سنان .
ففي هذا المبنى تمكن سنان من بناء قبة بحجم قبة آيا صوفيا ، حيث يبلغ قطر كل منها حوالي 31 مترًا ، وتقع القبة على ثمانية أرصفة في المثمن ، بدلاً من أربعة أرصفة كبيرة معتادة ، مما يمنح الفضاء المركزي شعوراً بالانفتاح وانعدام الوزن ، الذي يعززه الضوء الذي يتدفق من مئات النوافذ الصغيرة .
ولقد حقق العثمانيون أعلى مستوى من العمارة في أراضيهم ، حيث أتقنوا تقنية بناء مساحات داخلية شاسعة محصورة بقباب ضخمة غير ظاهرة على الإطلاق ، وتحقيق تناغم تام بين المساحات الداخلية والخارجية ، فضلاً عن الضوء والظل المميزين للعمارة الدينية الإسلامية ، التي كانت حتى ذلك الحين تتكون من مبانٍ بسيطة ذات ديكورات واسعة .
وكان الفضل الكبير في ذلك التحول للمهندس الرائع سنان ، وقد تم تحويل تلك العمارة الكلاسيكية من قبل العثمانيين من خلال مفردات معمارية ديناميكية للأقبية والقباب وشبه القباب والأعمدة ، فتحول المسجد من غرفة ضيقة ومظلمة مع جدران مغطاة بالأرابيسك ، إلى تحفه رائعة من التوازن الجمالي والتقني ، والأناقة الرفيعة ونوع من التفوق السماوي .
وفاته :
توفي المعمارجي سنان أغا في 1588م ودفن في قبر باسطنبول ، وهو تركيبة من تصميمه الخاص حيث تقع المقبرة خارج أسوار مسجد السليمانية إلى الشمال ، عبر شارع يدعى معمار سنان كاديسي وسمي بذلك تكريمًا له ، وقد دفن بالقرب من مقابر السلطان سليم الأول والسلطانة خاصكي زوجة السلطان سليمان .
وفي عام 1935 تم استخراج رفاته من قبل مجموعة من العلماء الأتراك ، عندما كان أنصار العلم العنصري شائعًا في ذلك الوقت ، وزعموا أن قياسات جمجمة سنان أثبتت أنه كان في الواقع تركيًا ، وليس من أصل أجنبي كما كان متداول .