أثار الانتشار الواسع للمسلمين في قرى السواد حفيظة الفرس ، الذين بدؤوا يستوعبون مقدار الخطر الحقيقي الذي يهددهم فجهزوا جيشًا آخر ، قوامه اثنا عشر ألف مقاتل وأرسلوه إلى الحيرة ، بقيادة بهمن جاذويه وهو أشد العجم على العرب المسلمين ، ورافقه الجالينس وأصطحب معه راية فارس الشهيرة درفش جاويان ، لتحفيز الهمم وعددًا من الفيلة ، ويبدو أن رستم أراد أن يكسب معركة أمام المسلمين ، تعيد إلى دولته موازنة الموقف ولحكومته هيبتها ، ولجيوشه روحها المعنوية وثقتها بنفسها .
الاستعدادات الفارسية وموقف أبو عبيد :
فرأى أبو عبيد عندما علم بالاستعدادات الفارسية الضخمة أن يتمهل ، ويتحصن في مكان أكثر أمنًا ويراقب تحركات الجيش الفارسي ، فأرتحل عائدًا إلى الحيرة ، وعندما تناهى على أسماعه أن وجهته الحيرة ، قرر أن يصطدم به خارجها فخرج منها ، وتوجه إلى قس الناطف فعبر الفرات واستعد لمواجهته .
خطة أبو عبيد :
وصل بهمن جاذويه إلى قس الناطف وعسكر على الضفة المقابلة ، وفصل نهر الفرات بين الجيشين وخير بهمن أبا عبيد ، إما أن يعبر إليه أو يدعه يعبر إلى الجانب الإسلامي ، فقرر القائد المسلم العبور إلى الجانب الفارسي على الرغم من معارضة أركان حربه ، فخسر بذلك مكانًا ملائمًا للعمليات العسكرية ، وفقًا لأساليب العرب القتالية ، لأن فيه مجال وملجأ ومرجع من فرة إلى كرة .
نسيان نصيحة عمر بن الخطاب :
وقد نسي نصيحة عمر إذ بعثه وتحذيره له من أرض المكر والخديعة ، وتحكمت به عواطفه لن يكونوا أجرأ على الموت منا ، في الوقت الذي كان أحوج إلى التفكير العقلاني الهادئ ، والتخطيط السليم بعيدًا عن انفعالات العواطف .
خطأ أبو عبيد :
عبر المسلمون نهر الفرات فوق جسر قد أقيم لهذه الغاية ، وقد ترك لهم بهمن مكانًا ضيقًا أجبرهم على النزول فيه ، خاليًا من مجال الكر والفر مما أفقدهم حرية الحركة والانتشار وميزة المناورة ، ففرض بذلك عليهم المعركة وأسلوب القتال وارتكب أبو عبيدة خطأ آخر ، حين قطع الجسر حتى يحول دون تفكير جنوده بالتراجع والانسحاب .
معركة الجسر :
ودارت بين الطرفين رحى معركة ضارية ، أدت الفيلة فيها دورًا كبيرًا بل إنها حددت نتائجها مبكرًا ، حيث كانت تجفل خيل المسلمين ، وإذ حشر هؤلاء في مكان ضيق فقد أمطرهم الفرس بالسهام ، ومزقوا صفوفهم حتى عضهم الألم .
خسارة المسلمين للمعركة :
وكانت معركة غير متكافئة قتل خلالها أبو عبيد تحت أقدام الفيلة ، مع عدد من القادة المسلمين عندئذ أدرك المثنى حرج الموقف ، وأن المعركة خاسرة فخطط للانسحاب آملًا أن يرتد المسلمون في نظام وهدوء .
فعقد الجسر لكن عبدالله بن مرثد الثقفي بادر إلى قطعه ، ومنع الجنود من العبور حتى يموتوا على ما مات عليه أمراؤهم أو يظفروا مبرهنًا قصر نظر في الحقل العسكري ، إذ عندما تعرض المسلمون لضغط قتالي متزايد لم يكن أمامهم سوى طريق النهر للفرار، فتواثبوا إليه فغرق من لم يصبر في حين أسرع القتل فيمن صبر .
تاريخ المعركة والانسحاب :
وأخيرًا تمكن المثنى الذي جرح في المعركة ، من إزاحة عبدالله وأعاد وصل الجسر ، وانسحب مع من بقي من أفراد الجيش باتجاه أليش وقد جرت المعركة في ( 23 شعبان عام 13 هـ) الموافق (22أكتوبر عام 634م ) .
انتصار الفرس في معركة الجسر :
كان انتصار الفرس واضحًا على الرغم من تكبدهم ستة آلاف مع المثنى ، لم يتعقب بهمن جاذويه المسلمين ، لأن أخبارًا وصلت إليه عن نشوب ثورة ضد رستم ، فآثر العودة إلى المدائن حتى يكون قريبًا من مجرى الأحداث ، إلا أنه ترك اثنين من قادته في المنطقة هما جابان ومردان شاه ليتعقبا المسلمين ، والواقع أن المثني كمن لهما في أليس وأسرهما وقتلهما مع جندهما ، وتحصن في هذه المدينة بانتظار جلاء الموقف .
تعقيب على معركة الجسر :
كانت معركة الجسر أول معركة يخسرها المسلمون أمام الفرس ، وتعد تجربة حية في حروبهم لإثبات قيمة كفاءة القيادة ، كما أن الحماس المجرد الذي أبداه أبو عبيدة قبل بدء القتال ، لا مكان له في المعارك إذا لم تسانده أسس صحيحة وتخطيط سليم .
قد افتقد أبو عبيد إلى عنصر الأمن ، حين حشره بهمن جاذويه في مكان ضيق ، وحرمه من حرية الحركة والإنتشار الضروريين لخوض معركة ناجحة ، على الرغم من تفوق الفرس في القتال ، فإنهم لم يتمكنوا من أسر أحد من المسلمين ، مما يدل على أن المقاتل المسلم احتفظ بميزاته في أشد الموقف حرجًا وشدة ، وظل يقاتل حتى آخر رمق .
لا شك بأن ثبات المسلمين في القتال كان من العوامل التي دفعت الفرس للعودة إلى المدائن ومنعتهم من مطاردتهم ، و كان لهذه المعركة أن تدور بطريقة أفضل لو أن أبا عبيد استجاب لنصيحة مستشاريه ، وتذكر نصائح الخليفة عمر بن الخطاب له .
أضاعت هذه المعركة مكاسب المعارك السابقة ولكن إلى حين وجعلت الحرب سجالًا ، بعد أن كانت سلسلة متصلة الحلقات من الانتصارات المتعاقبة ، وقد غلب على معارك المسلمين الثلاث قبل قدوم أبي عبيد الطابع التقليدي وهو الإغارة على القرى ، ولم يكن المسلمون مهيئين لصدام جبهوي واسع مع جيش فارسي بغياب قيادة كقيادة خالد بن الوليد .
أضحى استمرار التقدم مستحيلًا بعد هزيمة المسلمين في معركة الجسر دون إدخال إمدادات جديدة إلى المعركة، إذ أن الآلاف الثلاثة من المقاتلين الذين نجوا من المعركة واستمروا بالتواجد على أرض العراق ، شكّلوا أصغر قوة إسلامية منذ بدء الفتح ، فضلاً عن إثخانهم بالجراح .
موقف عمر بن الخطاب من معركة الجسر :
وقد كان رد فعل عمر عندما تلقى نبأ هزيمة المسلمين في معركة الجسر بسكون لافت ، إلا أنه تأثر ضمنيًا بشكل بالغ وشق ذلك أيضًا على المسلمين في المدينة ، ثم بدأت فلول الجند من المهاجرين والأنصار تصل إلى المدينة جزعين بما أصابهم .
مواساة عمر بن الخطاب للمسلمين وتجهيز إمدادات :
ورأى عمربن الخطاب فيهم ذلك فنعى الشهداء ، وراح يواسي الناس إلا أنه قلقًا على موقف المسلمين في العراق ، وأدرك أن المثني بحاجة إلى مدد يرسل إليه على وجه السرعة ، كي يواجه هذا الموقف الدقيق فقام بتكثيف حملاته التعبوية بين قبائل الردة ، وأرسل رسالة إليها يدعوها للسير نحو فارس لغزوها .
فاستجابت لندائه وبدأت الحشود تتوافد على المدينة من كافة أنحاء الجزيرة العربية ، وعلى رأسها قبيلة بجيلة بزعامة جرير بن عبدالله البجلي ، وحشود أخرى من بني ضبة ، وكنانة والأزد وبعض تميم من الرباب وبكر بن هوازن ، وخثعم وحنظلة .
إقناع عمربن الخطاب القبائل للذهاب للعراق :
وكان على عمر أن يتفاوض بحدة وشدة مع هذه القبائل ، لإقناعها بضرورة الذهاب إلى العراق لقتال الفرس ، لأن معظمها كان يبغي الالتحاق بجيوش المسلمين في بلاد الشام .
دفع الحشود والإمدادات للعراق :
وهكذا دفع عمر بحشود ضخمة إلى أرض العراق مددًا للمثنى ، ومن ناحية أخرى أرسل المثني النقباء إلى جميع المناطق الحدودية ، يستنفر العرب وكان من ضمنهم جموع من نصارى النمر ، عليهم أنس بن هلال النمري وجموع من بني تغلب ، وقبائل عربية أخرى مقيمة بالعراق ، وقد آثروا الانضمام إلى إخوانهم العرب ، والقتال في صفوفهم ضد العجم ، وقد جمعتهم رابطة الجنس .