في عام 1212م ، خرج أحد رعاة الغنم يدعى ستيفان بمدينة سانت دينيس بفرنسا ، وهو يحمل خطابًا بيده موجهًا للملك فيليب الثاني ملك فرنسا ، وادعى بأن المسيح قد تجلى له ، وطلب منه مباشرة أن يدعُ لحملة صليبية جديدة من أجل تحرير بيت المقدس .
بالطبع لم يأخذ الملك ما حدث بمحمل الجد ، وطلب من الفتى أن يعود لرعاية أغنامه ، إلا أن ستيفان ظن أنه قد يتمكن من محاكاة قائد الحملة الصليبية الأولى ، بطرس الناسك ولعل هذا ما دفعه للخروج للدعوة باسم المسيح ، وبشّر من حوله بأن البحر سوف ينشق لهم إذا ما خرجوا في حملتهم الميمونة مثلما انشق البحر لموسى .
تبع ستيفان حوالي عشرون ألفًا من الأطفال دون الثانية عشرة من أعمارهم ، وخرجوا يتبعونه في حشد ضخم في رحلة مقدسة نحو بيت المقدس ، إلا أنهم لم يعودوا من رحلتهم أبدًا .
انطلق الأطفال سيرًا على الأقدام ، واحتشدوا جميعًا أمام مدينة فندوم نحو جنوب نهر الراين ، باعتبارها محطة رحلتهم الأولى تجاه بيت المقدس ، وهم مقتنعون بأن تلك المهمة هي أمر من الله ، على الرغم من قائدهم الطفل هو الآخر ! والذي لم يكن لديه أي دليل قوي على صحة ادعاءاته ، سوى بريق ضوء لمحه في السماء وهو يتأملها ليلاً .
كانت الديانة المسيحية آنذاك في أوجها ، وكانت سلطة الكنيسة تتمثل في الحياة والدين أيضًا ، فقد كان من مصلحة الحكام أن تظل رغباتهم ملتصقة بالكنيسة ، ومن مصلحة الكنيسة أن يقتفيها العامة مثل قطيع الخراف .
ساعد التحالف بين كل من الكنيسة والدولة على تعزيز التحرك نحو فلسطين بالفعل ، فكافة الحملات الصليبية التي خرجت قِبل المقدس كانت بمباركة وموافقة الكنيسة من الأساس ، حيث ادعى الحكام الكنسيون أنها أوامر الرب ، وعلى الرغم من أن النزاع بشأن القس ، هو نزاع سياسي إلا أنه كان لابد من إضفاء الصبغة الدينية على الأمر ، حتى يسهل مهمة الانطلاق صوب فلسطين ، في حملات متتالية يذهب فيها الجنود وهم يوهمون أنفسهم بأنهم في خدمة إرادة الرب .
كانت قد فشلت أربعة حملات صليبية قبل تلك التي قادها الطفل ستيفان ، مما أجج موجة من الغضب بين أفراد الشعب خاصة عقب هزيمة حطين في هذا الوقت ، فكل ذلك الإحباط والهزائم قد جعلوا الشعب في انتظار أية معجزة ، وهنا ظهر ستيفان راعي الغنم الفقير ذو اللسان المنطلق الفصيح ، كلها عوامل جعلتهم يصدقون روايته دون تفحص لها ، وعدم منطقيتها إلا أن البعض يقولون بأن الأمر لا يعد كونه هربًا من أعمال الرعي والزراعة ، مع الوعد بحياة مرفهة في الجنة .
مع الانطلاق لم يكن ستيفان متقفشًا للغاية ، فقد طلب أن تحمله عربة وتنطلق به إلى جوار النبلاء ممن صدقوه ، وطلب مظلة لحمايته من الشمس ، بينما سار الباقون نحو وجهتهم على الأقدام فقط ، ولم يتشكك الجميع في صدق نوايا ستيفان قط ، بل تعاملوا معه كقديس يتقاتلون من أجل الحصول على قطعة من ثوبه ، أو شعره من جسده .
لم تبارك الكنيسة رسميًا تلك الحملة ، التي انطلقت من وازع ديني وجمعت جيشها من الأطفال الذين حملهم وعي جمعي نحو هدف واحد ، وليس لهم قائد سياسي أو أهداف سلطوية ، على العكس من العديد من الحملات السابقة لهم ، التي باركها البابا إنوسنت الثالث على سبيل المثال ، ولكنهم ضلوا طريقهم نحو القدس وذهبوا بدلاً منها متوغلون داخل أنحاء أوربا لمحاربة الزنادقة ، في محاولة منهم لتحقيق حلم الكنيسة للسيطرة في أوروبا.
في حين كانت حملة الأطفال الأنقياء مثل مهد المسيح ، ليس لها أية أهداف سوى بيت المقدس فقط ، كما أن نقاء الأطفال سوف يجعلهم في رعاية الرب مهما حدث ، ولكن هل هذا ما حدث معهم ؟
كانت الرحلة مؤلمة للغاية ، فلم يتحمل الكثير من الأطفال درجة الحرارة الشديدة ، وسقط الكثيرون منهم صرعى نتيجة الجفاف والعطش الشديد ، وعدم حصولهم على أية مساعدات من المدن التي قابلوها في طريقهم نحو هدفهم .
وعند بلوغهم مارسيليا كان قد توفى منهم نصف العدد الذي انطلق من الأساس ، وحاول البعض العودة مرة أخرى ، أما من الباقون فقد اتجهوا صوب البحر وانتظروا حتى ينشق لهم كما انشق لموسى ، وفقًا لرؤية ستيفان وادعاءاته ، ولكن لم يحدث شيء .
هنا عرض بعض تجار مارسيليا أن ينقلوا الأطفال نحو وجهتهم دون مقابل ، ووافق ستيفان على مضض منه ، وبالفعل حملت السفت هؤلاء الأطفال على متنهن ، وانطلقت في عرض البحر وهم ينشدون أغاني النصر ، ولكنهم اختفوا فيما بعد ولم يسمع بهم أحد مجددًا .
وبحلول عام 1230م ، وصل كاهن من الشرق إلى فرنسا ، وقال أنه أحد هؤلاء الأطفال الذين كانوا قد انطلقوا خلف ستيفان ، وروى لم اختفى هؤلاء.
حكى هذا الكاهن أنه عقب انطلاق السفن السبعة التي حملت الأطفال ، ضربت عاصفة قوية البحر وغرقت سفينتان منهم ، في حين وجدت السفن الخمس الأخرى أنفسهم محاطين بأسطول بحري من الجنود المسلمين ، وقد اكتشفوا فيما بعد أنه قد تم الاتفاق بين تجار مارسيليا والمسلمين من أجل بيعهم كأسرى .
ولعل تجاهل الكنيسة لما حدث لهؤلاء الأطفال هو ما دفع العديد من الأدباء والفلاسفة ، عقب مرور خمسة قرون على ما حدث لمهاجمة فساد الكنيسة ، الذي تسبب فيما بعد بالاقتران مع حوادث مشابهة لرحلة أولئك الأطفال ، في حدوث صدع خرج منه المواطنون من عباءة الكنيسة بشكل نهائي .