قل أن اتصلت الأسباب بين شخصين وتوثقت العرى بين اثنين كما اتصلت وتوثقت بين محمد بن عبدالله صلّ الله عليه وسلم وبين أبو سفيان بن الحارث فلقد ولدا في زمن متقارب ونشأة في أسرة واحدة وكان ابن عم النبي صلّ الله عليه وسلم فأبوه الحارث ينحدر من صلب عبدالمطلب جد الرسول صلّ الله عليه وسلم وكان أخ للنبي صلّ الله عليه وسلم في الرضاعة فقد غذتهم السيدة حليمة السعدية وكان صديقًا للنبي صلّ الله عليه وسلم قبل النبوة وأشد الناس شبهًا به .
ولكن الأمر جاء على خلاف كل ما يتوقعه المتوقعون إذ ما كاد الرسول صلّ الله عليه وسلم يظهر دعوته وينذر عشيرته حتى شبت نار الضغينة في نفس أبو سفيان فتحولت الصداقة إلى عداوة والرحم إلى قطيعة والأخوة إلى صد وإعراض ، وقد كان أبو سفيان يوم صدع النبي صلّ الله عليه وسلم بالدعوة فارسًا من أشجع فرسان قريش وشاعرًا من أعلى شعرائهم كعبًا فوضع سنانه ولسانه في محاربة الرسول صلّ الله عليه وسلم وجند طاقته كلها لنكاية بالإسلام والمسلمين فما خاضت قريشًا حربًا ضد النبي صلّ الله عليه وسلم إلا كان هو موقدها .
قصة إسلامه :
ولكن لم يطل الأمر فعند فتح مكة جاء إلى زوجته وأولاده وقال لهم تهيئوا للخروج من مكة فقد أوشك وصول محمد وإني لمقتول لا محالة لو أدركني المسلمون فقالوا له أما آن لك أن تبصر أن العرب والعجم قد دانت لمحمد صلّ الله عليه وسلم بالطاعة واعتنقت دينه وأنت مازلت تصر على عداوته وكنت أولى الناس بتأيده ونصره ، وظلوا يرغبونه في الدين حتى شرح الله تعالى صدره للإسلام فقام إلى النبي صلّ الله عليه وسلم وقد كان حينها في الأبواء بين مكة والمدينة فجلس أمام موكبه .
وبينما هو كذلك إذ طلع الرسول صلّ الله عليه وسلم في موكبه هتصدى له ووقف تلقائه فما إن ملئ النبي صلّ الله عليه وسلم عينه منه أعرض عنه إلى الناحية الأخرى فتحول لناحية وجهه صلّ الله عليه وسلم فأعرض عنه النبي صلّ الله عليه وسلم مرة أخرى ولكن المسلمين حينما رأوا إعراض رسول الله عنه تجهموا له وأعرضوا عنه جميعًا وقال له أحد الأنصار يا عدو الله أنت الذي كنت تؤذي رسول الله صلّ الله عليه وسلم ، وقد بلغت في عداوته مشارق الأرض ومغاربها وعندما وجد ألا مغيث له وألا ناصر له ذهب إلى عمه العباس .
وقال له يا عم قد كنت أرجو أن يفرح رسول الله بي لقرابتي منه وقد كان في ما تعلم فكلمه في حتى يرضى عني ، فقال لا ولله لا أكلمه كلمة أبدًا بعد ما رأيت من إعراضه عنك إلا إن سنحت فرصة فإني أجل رسول الله وأهابه فقال له يا عم إلى من تكلني فقال العباس رضي الله عنه ليس لك عندي إلا ما سمعت ثم رجع إلى عمه العباس مرة أخرى وقال إن كنت لا تستطيع أن تستعطف قلب رسول الله فكف عني هذا الرجل الذي يشتمني ويغري الناس بشتمي فقال له صفه لي فوصفه فقال هذا نعمان بن الحارث النجاري فأرسل إليه وقال إن أبو سفيان بن عم رسول الله صلّ الله عليه وسلم .
وإن يكن رسول الله صلّ الله عليه وسلم ساخط عليه اليوم فسيرضى عنه يومًا ، فكف عنه حتى كف عنه ، ولما يأس أبو سفيان وأشتد عليه الأمر وضاق ولله ليرضى عني رسول الله أو لأخذن بيد أبني هذا ثم لنذهبن هائمين على وجهينا في الأرض حتى نموت جوعًا وعطشًا ، فلما بلغ ذلك رسول الله صلّ الله عليه وسلم رق له .
يوم حنين :
ولما كان يوم حنين جمعت العرب لحرب النبي صلّ الله عليه وسلم وخرج الرسول صلّ الله عليه وسلم للقائهم في جموع من أصحابه فخرج معه ولما رأى جموع المشركين الكبيرة قال ” ولله لأكفرن عن كل ما سلف مني من عداوة رسول الله صلّ الله عليه وسلم وليرن النبي من أثري ما يرضي الله ويرضيه ” ولما التقى الجمعان اشتد وطأة المشركين على المسلمين فدب فيهم الوهن وجعل الناس يتفرقون عن النبي صلّ الله عليه وسلم وكادت تحل بالمسلمين الهزيمة المنكرة .
فإذا بالرسول يثبت في قلب المعركة على بغلته الشهباء ويجاهد عن نفسه وعندها وثب أبو سفيان عن فرسه وكان يريد الموت دون رسول الله وأخذ عمه العباس بلجام بغلة النبي صلّ الله عليه وسلم ووقف جانبه وأخذ أبو سفيان مكانه من الجانب الأخر وفي يمنه سيفه يدافع به عن رسول الله صلّ الله عليه وسلم وشماله كانت ممسكة بركاب النبي صلّ الله عليه وسلم .
فلما وجد النبي حسن بلائه فقال لعمه العباس من هذا فقال له هذا أخوك وابن عمك أبو سفيان بن الحارث فارضى عنه يا رسول الله فقال صلّ الله عليه وسلم قد فعلت وغفر الله له كل عداوة عداني بها ففرح بقول رسول الله صلّ الله عليه وسلم وقبل رجل النبي في الركاب ثم قال له النبي صلّ الله عليه وسلم أخي فعمري تقدم فضارب فحمل على المشركين حملة بعدتهم عن مواضعهم وحمل معه المسلمون حتى فرقوهم في كل وجه .
ظل منذ حنين ينعم بجميل رضا رسول الله صلّ الله عليه وسلم ويسعد بكريم صحبته ولم يرفع بصره في وجهه أبدا حياء منه وخجلًا ، واكب على القرآن الكريم ليل نهار يتلوا آياته ويتفقه في الدين وأعرض عن الدنيا وأقبل على الله تعالى بكل جارحه من جوارحه حتى أن الرسول صلّ الله عليه وسلم رأه يدخل المسجد فقال للسيدة عائشة رضي الله عنها أتدرين من هذا فقالت لا يا رسول الله فقال إنه ابن عمي أبو سفيان بن الحارث أنه أول من يدخل المسجد وأخر من يخرج منه ولما توفى النبي صلّ الله عليه وسلم حزن عليه أبو سفيان ورثاه بقصيدة وقال :
لقد عظمت مصيبتنا وجلت … عشية قيل قد قبض الرسول
وأضحت أرضنا مما عراها … تكاد بنا جوانبها تميل
فقدنا الوحي والتنزيل فينا … يروح به ويغدو جبرئيل
وذاك أحق ما سالت عليه … نفوس الناس أو كربت تسيل
وفاته :
وفي خلافة الفاروق رضي الله عنه أحس أبو سفيان بدنو أجله فحفر لنفسه قبرًا بيده ولم يمضي غير ثلاثة أيام حتى حضرته الوفاة فالتفت لزوجته وأولاده وأهله لا تبكوا عليه فولله ما تعلقت بخطئة منذ أن أسلمت ثم فاضت روحه فصلى عليه الفاروق رضي الله عنه وحزن لفقده هو والصحابة الكرام رضوان الله عليهم .