في بيت تشع دروب الإيمان في كل ركن من أركانه وتلوح صور التضحية والفداء على جبين كل ساكنيه نشأ حبيب بن زيد فأبوه هو زيد بن عاصم أحد السبعين الذين شهدوا العقبة وطليعة المسلمين في يثرب وأمه هي أم عمارة نسيبة المازنية أول سيدة حملت السلاح دفاع عن دين الله تعالى وأخوه عبدالله بن زيد الذي جعل نحره دون نحر النبي صلّ الله عليه وسلم وصدره دون صدره يوم أحد حتى قال الرسول صلّ الله عليه وسلم ” بارك الله عليكم من أهل بيت رحمكم الله من أهل بيت ” .
نفذ النور الإلهي إليه وهو صغير وكتب له أن يمضي مع أبيه وأمه وخالته وأخيه إلى مكة ليكون مع النفر السبعين ومد يده الصغيرة وبايع رسول الله صلّ الله عليه وسلم ، في بيعة العقبة ومنذ ذلك اليوم غدا رسول الله صلوات الله عليه أحب إليه من أمه وأبيه وأصبح الإسلام أغلى عنده من نفسه التي بين جنبيه ولم يشهد بدًا لأنه كان صغير جدًا ولم يكتب له شرف الإسهام في أحد لأنه كان لا يزال دون حمل السلاح ولكنه شهد بعد ذلك المشاهد كلها مع الرسول صلّ الله عليه وسلم وكان له في كل منها راية عز وصحيفة مجد وموقف فداء .
مع مسليمة الكذاب :
في السنة التاسعة للهجرة كان الإسلام قد قويت شوكته وصلب عوده ورسخت دعائمه فجاءت وفود العرب تشد الرحال من أنحاء الجزيرة العربية إلى يثرب للقاء رسول الله صلّ الله عليه وسلم وإعلان إسلامها بين يديه ومبايعته على السمع والطاعة وكان من بين تلك الوفود وفد بني حنيفة القادم من أعالي نجد وأناخ الوفد جماله في حواشي مدينة رسول الله صلّ الله عليه وسلم وخلف منه رجل يدعي مسيلمة بن حبيب الحنفي ، ومضى إلى النبي صلّ الله عليه وسلم وأعلن إسلامه وإسلام قومه ، فأكرم الرسول صلّ الله عليه وسلم وفادتهم وأمر لكل منهم بعطية وأمر لصاحبهم الذي خلفوه في رحالهم بمثل ما أمر لهم .
ولم يكن يبلغ الوفد منازله في نجد حتى ارتد مسيلمة بن حبيب الحنفي عن الإسلام وقام في الناس يعلن لهم أنه نبي مرسل أرسله الله إلى بني حنيفة كما أرسل محمد بن عبدالله إلى قريش فألتف قومه حوله مدفعين بالعصبية القبلية حتى أن رجل منهم قال أشهد أن محمد لصادق وأن مسيلمة كاذب ولكن كذاب ربيعة أحب إلينا من صادق مضر ولما كبر ساعد مسيلمة وغلظ أمره كتب إلى رسول الله صلّ الله عليه كتابًا جاء فيه :
“من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله سلام عليك وإني قد اشتركت في الأمر معك وإن لنا نصف الأرض ولقريش نصف الأرض ولكن قريش قوم يعتدون ” ثم بعث الكتاب مع رجلين من رجاله فلما قرأ الكتاب لنبي عليه الصلاة والسلام قال للرجلين وما تقولان أنتما فأجاب نقول كما قال فقال لهما ولله لولا أن الرسل لا تقتل لضربت عنقيكما ، ثم كتبت إلى مسيلمة رسالة وقال فيها :
بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب السلام على من اتبع الهدى أما بعد فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين وبعث الرسالة مع رجلين وازاد شر مسيلمة الكذاب فرأى الرسول بإرسال رسالة يزجره فيها عن غيه وحمل الرسالة حبيب بن زيد الأنصاري وكان يومئذ شاب مؤمن ، ومضى حبيب بن زيد إلى ما أمره رسول الله صلّ الله عليه وسلم حتى بلغ ديار بني حنيفة في أعالي نجد ودفع الرسالة إلى مسيلمة الكذاب ، فلما قرأها بدا الشر والغدر على قسمات وجهه ثم أمر بحبيب بن زيد أن يقيد وأن يؤتى به إليه ضحى اليوم التالي .
فلما كان الغد تصدر مسيلمة مجلسه وجعل عن يمينه وشماله الطواغيت من كبار أتباعه وأذن للعامة بالدخول عليه ثم أمر بحبيب بن زيد فجيء به إليه وهو في قيوده ووقف وسط تلك الجموع الحاقدة مشدود القامة ومرفوع الهامة فقال له مسيلمة أتشهد أن محمد رسول الله فقال نعم ثم قال وتشهد أني رسول الله فقال له إن في أذني صمم عن سماع ما تقول فقال مسيلمة لجلاده اقطع قطعة من جسده فأهوى الجلاد عليه وبتر قطعة من جسده ثم أعاد عليه السؤال نفسه فقال له قلت لك إن في أذني صمم عن سماع ما تقول فأمر بأن تقطع من جسده قطعه أخرى والناس مذهولين من تصميمه وعناده ومضى مسيلمة يسأل والجلاد يقطع وحبيب يقول أشهد أن محمد رسول الله .
حتى صار نحو من نصفه قطع مقطعة منثورة على الأرض ونصفه الأخر كتلة تتكلم ثم فاضت روحه على شفتيه الطاهرتين اسم النبي الذي بايعه ليلة العقبة ولما جاء خبره إلى أمه قالت من أجل هذا الموقف أعددته وعند الله احتسبته لقد بايع الرسول صلّ الله عليه وسلم ليلة العقبة صغيرًا ووفى له اليوم كبيرًا ، ويوم اليمامة وجدت نسبية تشق الصفوف وهي تنادي أين عدو الله فلما انتهت إليه وجدته ممدد على الأرض وسيوف المسلمين تنهل من دمائه فطابت نفس وقرت عين .