تحكي لنا قصة اليوم عن محمد بن عبدالرحمن بن المغيرة بن الحارث بن أبى ذئب ، الذي كان يعيش في مدينة رسول الله صلّ الله عليه وسلم ، حيث مسجده النبوي وقبره الشريف ، فقد عاش جيلٌ من التابعين تربى على يد كبار الصحابة ، فتعلموا منهم من الصفات ما جعلهم نجوم في سماء التاريخ الإسلامي .
وواحدٌ من هؤلاء العظماء هو التابعي الجليل محمد بن عبدالرحمن بن أبى ذئب ، الذي ولد سنة ثمانين للهجرة وكان من أورع العباد وأودعهم ، فكان يصلي غالب الليل ويجتهد في العبادة ، وعرف عنه حبه للحق وإتباعه فكان يعيب الباطل ويذمه في وجه أهله ، وكان لا يخشى من بطش حاكم ولا يهاب ظلم الخلافة .
مواقف من حياة التابعي الجليل :
وسط تجمع من الناس التفت واحدٌ منهم قائلًا: أنظروا من القادم إنه المهدي بن الخليفة بن العباس وولي العهد ، فرحب الناس بولي العهد الخليفة المنصور رحب به الجميع ماعدا شخصًا ما لم يتحرك من مكانه ، فذهب حارس إليه حارس ولي العهد قائلًا : ما بالك لا تتحرك من مكانك وتحيي الخليفة المنصور هل أنت أعمى ؟
لماذا لا تقف لمولاي كما قام الجميع ؟ هل أنت أصم وأبكم أيضًا ؟ رد الشخص الذي لا يبالي بقدوم ولي العهد من وجهه نظر الحارس وقال : ما طلبك؟ قال الحارس: ليس طلبًا بل أمر وهو أن تقف لولي العهد كما قام الجميع ، فرد ذلك الشخص قائلًا : لن أقف ، فقال الحارس : هل تجرؤ على ذلك ؟ ألا تحترم ولي العهد ؟
فرد الرجل الرافض : بل أحترمه وأقدره ولكنه بشر ، فلماذا أقوم لبشر؟ إنما يقوم الناس لرب العالمين ، فانتفض الحارس رافعًا سيفه ، وهنا قاطعه ولي العهد رافعًا صوته على الحارس ، دعه إنه على صواب ، ماذا كنت ستصنع بسيفك بمسجد الرسول ؟ ألا إن المساجد بيوت الله ولها حرمتها ، فخفض الحارس السيف ثم قال ولي العهد هي نكمل سيرنا .
ومع كل ما حدث لم يتحرك هذا الشخص من مكانه ، برغم أن الناس ظلوا يهللون حتى رحيل ولى العهد ، وهو لم يتحرك أو يتفوه بكلمة فسأل أحدهم متعجبًا : من هذا الرجل الجريء ، فأجابه فرد منهم : ألا تعرفه إنه عالم المدينة محمد بن أبى ذئب ، فقال السائل : ما أشجعه وما أقوى إيمانه ! وهاهو قام ليصلي لرب العالمين .
فأجابه أحدهم : بما أنك لا تعرفه فلا بد أنك لا تعرف ماذا فعل مع الخليفة أبي جعفر المنصور أبي المهدي ، إنه موقف أصعب من ذلك بكثير ، فرد الشخص السائل باهتمام : أقابله أيضًا ؟ فأجابه الشخص القاص : نعم حدث ذلك منذ سنوات عندما ذهب الخليفة المنصور إلى مكة حاجًا ، وقال الخليفة لأحد أتباعه : أترى هذا الرجل الذي يصلي هناك ؟ إنه محمد بن ذئب عالم المدينة اطلب منه أن ينضم إلينا .
فأجابه تابعه : أمرك يا مولاي وبالفعل ذهب تابع الخليفة لمحمد بن أبى ذئب وقال له : مولاي الخليفة أبى جعفر المنصور يدعوك إلى مجلسه ، رد بن أبى ذئب : وما المانع لعل الله يوفقنا لكلمة الحق ، وذهب ين أبى ذئب إلى مجلس الخليفة جعفر، فرحب به الخليفة قائلًا : مرحباً بعالمنا الجليل تفضل يا محمد .
ثم التفت بجانبه وقال : ماذا كنت تقول أيها الفتى فرد الفتى : أنك أعظم من جاء من الخلفاء ، فجيوشك فتحت البلاد ونشرت الإسلام ، واتسعت البلاد في عهدك وصارت أقوى ، بارك الله فيك يا مولانا المنصور بارك الله فيك ، وهنا التفت الخليفة إلى بن أبى ذئب قائلًا : وأنت يا بن أبى ذئب ما قولك ؟
قال بن أبى ذئب : أخشى أن ترتكب أفعال يكون فيها ظلمًا للعباد يا مولاي ، فقال الخليفة : وما الذي دعاك إلى قول هذا يا بن ذئب ، قال بن أبى ذئب : لقد زاد الفقراء والمحتاجون وجيوشك يا مولاي في أركان الدنيا ينصرهم الله ، ويحصدون الغنائم فلماذا يا مولاي لا تجعل للفقراء نصيبًا وجزءًا من هذه الغنائم .
فرد الخليفة قائلًا : لولا تحركات جيوشي وحروبهم ومواجهتهم للعداء لأصبحت الدولة في خطر ، ولقتل الناس في منازلهم ، فرد بن أبي ذئب في شجاعة بالغة : هناك يا مولاي من حمى الدولة وحارب الأعداء ، إنه أمير المؤمنين الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه .
فقال له الخليفة : إنك خير أهل الحجاز ، أعطوا محمد بن أبى ذئب ثلاث مائة ألف دينار فإنه يستحق ، وأخذ يقول في نفسه والله أنك حق العالم للمدينة ، مواقف كثيرة من هذه كانت تثبت شجاعة محمد بن أبى ذئب ، ومواقف أكثر كانت تثبت زهده وورعه ، فقد كان يترك المكاسب الدنيوية الزائلة طمعًا فيما هو خيرُ وأبقى ، رحم الله التابعي الجليل وجعله لنا قدوةً ومثلًا .