جلس النعمان بن المنذر وعليه حلة مرصعة بالدر ، لم ير مثلها قبل ذلك اليوم ، وأذن للعرب في الدخول عليه ، وكان فيهم أوس بن حارثة ، فجعلت العرب تنظر إلى الحلة ، وكل منهم يقول لصاحبه : ما رأيت مثل هذه الحلة قط ، ولا سمعت أن أحدًا من الملوك قدر على مثلها ، وأوس بن حارثة مطرق لا ينظر إليها ، فقال له النعمان : ما رأى كل من دخل عليّ إلا استحسن هذه الحلة ، وتحدث مع صاحبه في أمرها إلا أنت ، ما رأيتك استحسنتها ولا نظرتها .
رأي أوس بن حارثة من حلة النعمان :
قال أوس : أسعد الله الملك ! إنما تستحسن الحلة إذا كانت في يد التاجر ، وأما إذا كانت على الملك ، وأشرق فيها وجهة فنظري مقصور عليه لا عليها ! استرجع عقله .
تجمع العرب عند النعمان في اليوم الثاني:
فلما عزموا على الانصراف ، قال لهم النعمان : اجتمعوا إليّ في غد فإني ملبس هذه الحلة لسيد العرب منكم ، فانصرف العرب منه ، وكل يزعم أنه لابس الحلة ، فلما أصبحوا تزينوا بأفخر الملابس ، وتقلدوا بأحسن السيوف ، وركبوا أجود الخيل ، وحضروا إلى نعمان .
تأخر أوس بن حارثة عن مجلس النعمان :
وتأخر عنه أوس بن حارثة ، فقال له أصحابه : مالك لا تغدو مع الناس إلى مجلس الملك ، فعلك تكون صاحب الحلة ؟ فقال أوس : إن كنت سيد قومي فما أنا بسيد العرب عند نفسي ، وإن حضرت ولم آخذها انصرفت منقوصًا ، وإنا كنت المطلوب لها فسيعرف مكاني ، فأمسكوا عنه .
حضور أوس بن حارثة بأمر النعمان :
ونظر النعمان في وجوه القوم ، فلم ير أوس بن حارثة ، فاستدعى بعض خاصته ، فقال : اذهب لتعرف خبر أوس ، فمضى رسول النعمان ، واستخبر بعض أصحابه فأخبره بمقالته ، فعاد إلى النعمان فأخبره بذلك ، فبعث النعمان إليه رسولاً ، وقال : احضر آمنا ، مما خفت عليه ، فحضر أوس بثيابه التي حضر بها بالأمس ، وكانت العرب قد استبشرت بتأخره خوفًا من أن يكون هو الآخذ للحلة .
رفعة أوس بن الحارثة بين قومه :
فلما حضر وأخذ مجلسه ، قال النعمان : إني لم أرك غيرت ثيابك في يومك ، فالبس هذه الحلة لتتجمل بها ، ثم خلعه وألبسه إياها ، فاشتد ذلك على العرب وحسدوه ، وقالوا : لا حيلة لنا فيها ، إلا أن نرغب إلى الشعراء أن يهجوه بقبيح الفعل ، فإنه لا يخفض رفعته إلا الشعر .
طلب القوم من جرول هجاء أوس بن الحارثة :
فجمعوا فيما بينهم خمسمائة ناقة ، وأتوا بها إلى رجل يقال له جرول ، وقالوا له : خذ هذه ، واهج لنا أوس بن حارثة ، وكان جرول يومئذ أشعر العرب ، وأقواهم هجاء ، فقال لهم : يا قوم ، كيف أهجوا رجلا حسيبا لا ينكر بيته ، كريما لا ينقطع عطاؤه ، فيصلاً لا يطعن على رأيه ، شجاعًا لا يضام نزليه ، محسنا لا أرى في بيتي شيئًا إلا فضله !
هجاء بشر بن أبي خازن لأوس بن الحارثة :
فسمع بذلك بشر بن أبي خازم ، وكان شاعرًا ، فرغب في البذل ، وأخذ الإبل وهجاه ، وذكر أمه سعدي ، فسمع أوس بذلك ، فوجه في طلبه ، فهرب وترك الإبل ، فأتوا بها إلى أوس بن حارثة ، فأخذها وشد في طلبه ، وجعل بشر بن أبي حازم يطوف في أحياء العرب ، يلتمس عزيزًا يجيره على أوس ، وكل من قصده يقول : قد أجرتك إلا من أوس بن حارثة ! فإني لا أقدر أن أجير عليه وكان أوس قد بثّ عليه العيون .
القبض على بشر بن أبي خازم والإتيان به لأوس :
فرآه بعض من كان يرصده ، فقبض عليه ، وأتى به أوس ، فلما مثل بين يديه ، قال له : ويلك ! أتذكر أمي وليس في عصرنا مثلها ؟ قال : لقد كان ذلك أيها الأمير ؟ فقال : والله لأقتلنك قتلة تحيا بها سعدى ، يعني أمه .
سعدى أم أوس بن الحارثة وموقفها من هاجيها :
ثم دخل أوس إلى أمه سعدى ، وقال : قد أتيتك بالشاعر الذي هجاك ، وقد آليت لأقتلنه قتلة تحيين بها ! قالت : يا بني ، أو خير من ذلك ؟ قال : وماهو ؟ قالت : إنه لم يجد ناصرًا منك ، ، ولا مجيرًا عليك ، وإنا قوم لا نرى في اصطناع المعروف من بأس ، فبحقي عليك ألا أطلقته ، ورددت عليه إبله ، وأعطيته من مالك مثل ذلك ، ومن مالي مثله ، وأرجعه إلى أهله سالمًا ، فإنهم أيسوا منه .
توبة بشر من كتابة الهجاء وعهده مع الله بذلك :
فخرج له أوس ، وقال : ماذا تقول أني فاعل بك ؟ قال : تقتلني لا محالة ! قال : أفتستحق ذلك ؟ قال : نعم ؟ قال : إن سعدي التي هجوتها قد أشارت بكذا وكذا ، وأمر بحل كتافه ، وقال له : انصرف إلى أهلك سالمًا ، وخذ ما أمرت لك به ! فرفع بشر يده إلى السماء ، وقال : اللهم أنت الشاهد عليّ ألا أعود إلى شعر ، إلا أن يكون مدحًا في أوس بن حارثة !