حدد الحق قوامة المؤمنين بالقسط والشهادة لله ، ولو على النفس أو الأب أو الأم أو الأقارب ، ولا يصح أن يضع أحد من المؤمنين ثراء أو فقر المشهود له أو عليه في البال ، بل يجب أن يكون البال مع الله فقط ، لذلك قال : (إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَىٰ بِهِمَا ۖ فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَىٰ أَن تَعْدِلُوا ۚ ) .. صدق الله العظيم ..
الغني والفقير ورحمة الله :
وقد يقول قائل : إن الهوى قد ينحاز إلى الغنى طمعًا في ثرائه ، فلماذا يذكر الله الفقير أيضًا ؟ ونقول : قد ينحازالهوى إلى الفقير رحمة بالفقير ، فيحدث الشاهد نفسه : أنه فقير ويحب الرحمة ، لذلك يحذرنا الحق من الانحياز إلى الغني أو إلى الفقير .
الله أولى بهما :
ولادخل للشهادة بثراء الثري أو بفقر الفقير ، لأن العبد المؤمن ليس أولى أو أحق برعاية مصالح الناس من خالقهم جل شأنه ولذلك جاء بالحيثية الملجمة ، فقال تعالى : (فَاللَّهُ أَوْلَىٰ بِهِمَا ۖ فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَىٰ أَن تَعْدِلُوا ۚ ) .. صدق لله العظيم ، أي أنك أيها العبد لم تخلق أحدًا منهما ، ولكن الله خالق الاثنين وهو أولى بهما فليس لك أن تقيم شهادتك على الثراء ، أو على الفقر لأنك لست القيم على الوجود .
العدل وإتباع الهوى :
والذي يفسد ويشوش على العدل هو الهوى ، والمثل العربي يقول : آفة الرأي الهوى ، وإياكم أيها المؤمنون وإتباع الهوى حتى لا تفسد قدرتكم على العدل وتنجحوا بعيدًا عنه .
القاضي مع أمير المؤمنين :
والتاريخ العربي يحتفظ لنا في ذاكرته حكاية رجل فاضل ذهب إلى الخليفة ، وقال له : أعفني من القضاء ! فقال الخليفة : فمن يكون للقضاء إذًا وأنت العادل الذي شهد له كل الناس بذلك ؟
فقال القاضي : والله يا أمير المؤمنين لقد عرف الناس عني أني أحب الرطب ، أي بلح ، وبينما أنا في بيتي وإذا بالخادم قد دخل ومعه طبق من رطب ، وكنا في بواكير الرطب ، ومن الطبيعي أن تكون النفس في لهفة عليه مادامت تحبه ، ويتابع القاضي حكايته للخلفية : فقلت للخادم من جاء به ؟
فأجاب الخادم : إنه واحد صفته كذا وكذا ، فتذكرت أن من أرسل الرطب هو واحد من المتقاضين أمامي ، فرددت عليه الرطب ، ولما كان يوم الفصل في قضية صاحب الرطب ، دخل الرجل عليّ فعرفته ، فوالله يا أمير المؤمنين ما استويا في نظري هو وخصمه على الرغم من أني رددت الطبق ، وهكذا استقال القاضي العربي الملسم من منصب القضاء .
الحق والشهادة :
ويتابع الحق سبحانه وتعالى : (وَإِن تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ) صدق الله العظيم ، أن تلووا في الشهادة والليّ هو التحريف ، أي تحرفوا الشهادة وتغيروها ، فإن الله بما تعملون خبير ، أو أن يعرض الشخص عن أداء الشهادة لأنه يخاف من المشهود عليه ، لذلك يقال : إنه خائف من المشهود عليه ، لأن الشهادة ترجح حكم المشهود له ، لهذا فهو يعرض عن الشهادة ، وإن جاء للشهادة فهو يلف الكلمات ويلوي لسانه بها ، لذلك يقول الحق : (وَإِن تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ) صدق الله العظيم ..
أقسام العمل :
إذًا فالذي يفسد العدل هو الهوى ، والهوى عمل القلب ، لذلك نحتاج إلى خبرة الخبير اللطيف ، فعلينا أن نعلم أن النيات عمل القلوب ، وبذلك صار العمل ينقسم الآن أمامنا إلى ثلاثة أقسام : قول اللسان ، وفعل الجوارح غير اللسان ، ونيات قلوب وهوى .