يقول الحق تبارك وتعالى لنبيه صلّ الله عليه وسلم : لا تستبطئ عذابهم والانتقام منهم في الدنيا ، فما لم تره من العذاب في الدنيا ستراه في الآخرة ، وذلك في مستهل الآية الكريمة : (فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ) صدق الله العظيم .

الإنذار والرحمة :
ثم يقول الحق سبحانه وتعالى : (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ ) صدق الله العظيم ، والإنذار نوع من الرحمة ، لأنك تخبر بشر قبل أوانه ، ليحذر المنذر ، ويحاول أن ينجي نفسه منه ، ويبتعد عن أسبابه ، فحين أذكرك بالله ، وأنه يأخذ أعداؤه أخذ عزيز مقتدر ، فعليك أن تربأ بنفسك عن هذه النهاية ، وأن تنجو من دواعي الهلاك ، ومعنى ( مُّبِينٌ ) أي محيط لايترك صغيرة أو كبيرة .

الإيمان بالله والرزق الكريم :
وقال تعالى في كتابه الكريم : ( فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ) صدق الله العظيم ، وطالما آمنوا وعملوا الصالحات فقد انتفعوا بالنذارة ، وأثمرت فيهم ، فآمنوا بالله إلهًا فاعلاً مختارًا له صفات الكمال المطلق ، ثم عملوا على مقتضى أوامره ، لذلك يكون لهم مغفرة إن كانت ألمت نفوسهم بشيء من المعاصي ، ويكون لهم رزق كريم .

والكريم هو البذّال ، كأن الرزق نفسه وصل إليهم بكرم وزيادة ، كما أن الكريم هو الذي تظل يده مبسوطة دائمًا بالعطاء ، كما قال الشاعر : وَإِنِّي امْرؤٌ لاَ تَسْتَقِرُّ دَرَاهِمِي .. عَلَى الكَفِّ إِلاَّ عَابِرَات سَبِيل .. ، فالرزق نفسه كريم ، لأنه ممدود لا ينقطع ، كما لو أخذت كوب ماء من ماء جار ، فإنه يحل محله غيره على الفور ، وهكذا .

السعي بين الحمد والذم :
وقال تعالى : (وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ) صدق الله العظيم ، السعي : عمل يذهب إلى غاية ، فإنه كان قطع مسافة نقول : سرنا من كذا إلى كذا ، وإن كان في قضية علمية فكرية ، فيعني : أن الحدث يعمل من شيء بداية إلى شيء غاية ، والسعي لا يحمد على إطلاقه ، ولا يذم على إطلاقه ، فإن كان في خير فهو محمود ، كالسعي الذي قال الله فيه : (فَأُولَٰئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا ) صدق الله العظيم .

وإن كان في شر فهو قبيح مذموم ، كالسعي الذي قال الله تعالى فيه : (وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَىٰ مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204) وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ ) صدق الله العظيم .

السعاية والشر :
أما السعاية فعادة تأخذ جانب الشر ، وتعني : الوشاية والسعي بين الناس بالنميمة ، تقول : فلان سعاء بين الخلق ، يعني بالشر ينقله بين الناس بقصد الأذى ، وهؤلاء إن عملوا الخير أخفوه ، وإن عملوا الشر أذاعوه ، وإن لم يعلموا كذبوا ، لذلك نقول عمّا ينتج من هذه السعاية من الشر بين الناس ، هذا آفة الآخذ ، هذا يعني : الذي سمع الشر ونقله وسعى به ، وكان عليه أن يحبسه ويخفيه ، حتى لا تنتشر هذه الرذيلة بين الخلق .

الواشي بهمام السلولي :
ويروى أن قد وشى واشٍ بهمام بن عبدالله السلولي إلى زياد بن أبيه ، وكان زياد جبارًا ، فقال للواشي : أأجمع بينك وبينه ؟ فلم يجد الواشي بدًا من أن يقول : نعم ، فكيف ينكر ما قال ؟! ولعله قال في نفسه : لعل الله يقضي أمرًا يخرجني من هذه الورطة ، قبل هذه المواجهة ؟

ثم أرسل زياد إلى ابن همام فأتيّ به ، وقد جعل زياد الواشي في مجلسه خلف ستار ، وأدخل همام ، فقال له : يا همام بلغني أنك هجوتني ، فقال : كلا ، أصلحك الله ما فعلت ، ولا أنت لذلك بأهل ، فكشف زياد الستار ، وقال : هذا الرجل أخبرني أنك هجوتني ، فنظر ابن همام ، فإذا هو صديق له يجالسه ، فقال له :

وأنت امرؤ إما ائتمنتك خالياً..   فخنت وإما قلت قولاً بلا علم ..
فأنت من الأمر الذي كان بيننا   .. بمنزلة بين الخيانة والإثم ..

ويعني : أنت مذموم في كل الأحوال ، لأنك إما خنت أمانة المجلس والحديث ولم تحفظ سرًا فضفضت لك به ، وإمّا اختلقت هذا القول كذبًا وبلا علم ، وعندها خلع زياد على همام خلع  ، لكنه لم يعاقب الواشي ، وفي هذا إشارة إلى ارتياحهم لمن ينقل إليهم ، وأن آذانهم قد أخذت على ذلك وتعودت عليه .

By Lars