هناك من يهديه الله سبحانه وتعالى بعد رحلة لهو وغوص في الذنوب والمعاصي ، ومنهم من يصل إلى أعلى الدرجات الإيمانية ، وقد كان عبدالله بن مسلمة بن قعنب الحارثي من هؤلاء العصاة حتى تاب الله عليه وأنار قلبه بالإيمان وأصبح واحدًا من علماء السنة والجماعة ، كما أصبح من رواة الحديث وتتلمذ على يديه الإمام البخاري .
حياة القعنبي :
لقد كان يعيش القعنبي حياة لاهية مع أصدقاء السوء ، فكان شاربًا للخمر في الطرقات دون تورع أو حياء ، وقد عاش ذلك طويلًا في حال سيء مع رفقاء السوء الذين كانوا يعربدون مثله ويرتكبون المعاصي في الشوارع بين الناس .
أراد الله تعالى أن ينشرح قلب القعنبي للهداية فأنار بصيرته بالعلم حينما التقى مع الإمام الشعبي والذي بدا ذكيًا في التعامل معه ، وقد أدى ذلك إلى تغير جذري في حياة القعنبي الذي صار طالبًا للعلم في كل مكان ، وقد تتلمذ على يد الإمام مالك حتى ارتوى من فيض علمه الغزير.
قصة توبته :
لقد ذكر العلماء أن القعنبي كان جالسًا يعاقر الخمر على قارعة الطريق كعادته ؛ حيث لم يكن لديه الحياء الذي يمنعه من فعل ذلك أمام عامة الناس ، ولكنه لاحظ جمع من الناس ملتفين حول رجل كان يركب حمار ، فانتبه إلى ذلك المشهد وقرر أن يصل إلى هذا الرجل ، وتمكن القعنبي من اختراق جموع الناس المحيطين بالرجل حتى وصل إليه ثم أمسك بلجام الحمار وهو يتحدث إلى الرجل قائلًا : من أنت؟! فأجابه راكب الحمار : شعبة ، هنا سأل القعنبي مرة أخرى : ومن شعبة؟!.
بدا سؤال القعنبي الذي وجهه إلى راكب الحمار وكأنه صاعقة ألمت بجميع الموجودين ، فهل هناك أحد في البصرة لا يعرف من هو شعبة بن الحجاج وهو أحد رواة الحديث ومحدثي الأمة ، وفي ذلك الوقت أجاب تلاميذ شعبة على سؤال القعنبي قائلين : محدث .
كان القعنبي بعيدًا تمامًا عن حياة المسلمين ، فعاد ليسأل من جديد : وما محدث؟! ما هو شغله؟! ثم أعاد سؤاله بصيغة أخرى : ماذا يفعل المحدث؟ ، كان جموع الناس لا يكادون أن يصدقوا ما يسمعونه ، فهل يوجد بينهم من لا يعرف من هو المحدث ، فعاد ليسأل : وما محدث يبيع ماذا؟! ، هنا أجابوه قائلين : محدث يروي أحاديث.
نور الإيمان يغزو قلبه :
تحدث القعنبي ساخراً بعد أن سمع الإجابة فتوجه باستهزاء إلى شعبة قائلًا : حدثني بحديث مما تعرف ، أدرك شعبة أنه سيتحدث إلى واحدًا من الشباب الذين لا يعرفون عن دينهم شيئًا ، فقرر أن يعطيه درسًا مدى الحياة من خلال إجابته .
توجه شعبة إلى القعنبي كي يجيبه على طلبه حيث قال له : حدثنا منصور عن ربعي عن أبي مسعود البدري رضي الله عنه أن رسول الله صلّ الله عليه وسلم قال ” إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى ؛ إذا لم تستح فافعل ما شئت” .
وقع الحديث الذي قاله الشعبي على قلب القعنبي قبل أن يقع على مسامعه فترك اللجام من بين يديه ، وأصابته نوبة بكاء حتى عاد إلى منزله ، وحينما قابل أمه قال لها : إذا عاد أصحابي أخبريهم بأني سكبت الشراب ، فإذا علموا رحلوا عني .
القعنبي المتأمل والباحث عن العلم :
بعد هذه الواقعة ظل القعنبي يبحث عن شخص يكون أعلم أهل الحديث ، فأرشده الناس ليذهب إلى الإمام مالك في المدينة ، وبالفعل أصبح من أنجب تلاميذه ، ويُذكر أن الإمام مالك قام بقراءة نصف الموطأ على القعنبي الذي قام هو بقراءة النصف الآخر على معلمه.
أصبح القعنبي أحد رواة الحديث وواحدًا من العلماء الثقة في عصره ، وقد تتلمذ على يده الإمام مسلم والإمام البخاري وأبو داوود ، وقد وافته المنية في مكة المكرمة عام 221 هجريًا .