قال تعالى : ( وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَىٰ مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204) وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ )..صدق الله العظيم .
ظاهر الأعمال وباطنها :
يريد الله سبحانه وتعالى أن يضع أمامنا قضية وجودية ، وهذه القضية الوجودية هي أن كل عمل له ظاهر وله باطن ، ومن الجائز أن تتقن الظاهر وتدلس على الناس في الباطن ، فإذا كان الناس لهم مع بعضهم ظاهر وباطن ، فمن مصلحة الإنسان أن ينتمي هو والناس جميعًا ، إلى عالم يعرف فيه كل إنسان أن هناك إلهًا حكيمًا يعرف كل شيء عنا جميعًا .
قضاء السماء وعلم الغيب :
فإذا كان عندك شيء لا أعلمه ، وأنا عندي شيء أنت لا تعلمه كيف تسير مصالحنا؟ ولذلك فمن ضروريات حياتنا أن نؤمن معًا ، بإله يطلع على سرائرنا جميعًا ، وهذا ما يجعلنا نلزم الأدب ، ولذلك قيل : (إن عَميّتَ على قضاء الأرض فلن تعمى على قضاء السماء) .
إذًا فقضاء السماء وعلم الله بالغيب ، مسألة يجب أن نحمده عليها ، لأنه هو الذي سيحمي كل واحد منا من غيره ، وعندما ستر الله غيبنا فذلك نعمة يجب أن نشكره عليها ، لأن النفوس متقلبة .
لو تكاشفتم ما تدافنتم :
فلو علمت ما في نفسي عليك في لحظة قد لا يسرك ، وقد لا تنساه أبدًا ويظل رأيك فيّ سيئًا ، لكن الظنون والآراء تمر عندي وعندك وتنتهي ، ولو اطلع كل منا على غيب الآخر لكانت الحياة مرهقة ، والقول المأثور يذكر ذلك : (لو تكاشفتم ما تدافنتم) .
إذًا فمن رحمة الله ومن أكبر نعمه على خلقه ، أن ستر غيب خلقه عن خلقه ، والحق يحذرنا ممن قال منهم : (وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) .. صدق الله العظيم ، أي الذين يظهرون من خير خلاف ما يبطنون من شر ، ولذلك صور الشاعر هذه المسألة فقال : على الذم بتنا مجمعين وحالنا .. من الخوف حال المجمعين على الحمد ..
أي لو تكاشفنا لقلنا كلنا ذمًا ، إنما كلنا مداحون حين يلقى بعضنا بعضًا كل يقول بلسانه ما ليس في قلبه ، و(يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ ) فهل من الممنوع أن يعجبك القول ؟! لا ، يعجبني القول ولكن في غير الحياة الدنيا ، فالقول الذي يعجب هو ما يتعلق بأمر الحياة الآخرة الباقية ، ليضمن لنا الخير عند من يملك كل الخير ، وكفى بالذي يسمع من مدح له مادحًا ، والمادح نفسه يضمر في قلبه كرهًا له ، وكفى بذلك شهادة تغفيل للممدوح ، بأنه يقول بينه وبين نفسه : إن الممدوح غبي ، لأني ممدحه وهو مصدق مدحي له.
الإمام جعفر الصادق مع الخليفة :
إن الله سبحانه وتعالى ينبهنا إلى ضرورة أن يكون المسلم يقظًا وفطنًا ، ومن يقول لنا كلامًا يعجبنا في الحياة الدنيا ، نتهمه بأن كلامه ليس حسنًا ، لأن خير الكلام هو ما يكون في الأمر الباقي .
ولذلك عندما أرسل خليفة المسلمين للإمام جعفر الصادق يقول له : لماذا لا تغشانا ، أي لا تزورنا كما يغشانا الناس ؟ فكتب الإمام جعفر الصادق للخليفة يقول : أما بعد فليس عندي من الدنيا ما أخاف عليه ، وليس عندك من الآخرة ما أرجوك له ،وكأنه يريد أن يقول له اتركنا وحالنا ، أنت محتاج لمن يجلس معك ويمدحك ، وأنت لا تعلم أن أول أناس لهم رأي سيء فيك هم من يمدحونك.
الأخنس والآية التي شملت كل منافق :
(وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) ..صدق الله العظيم ، وهذه الآية نزلت في الأخنس بن شريق الثقفي ، واسمه أَبي ولقب بالأخنس لأنه خنس ورجع يوم بدر فلم يقاتل المسلمين مع قريش واعتذر لهم بأن العير قد نجت من المسلمين ، وعادت إليهم ، وكان ساعة يقابل رسول الله صلّ الله عليه وسلم ، يظهر إسلامه ويلين القول للرسول ويدعي أنه يحبه ، ولكنه بعد أن خرج من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بزرع وحُمُر لقوم من المسلمين فأحرق الزرع وقتل الحمر ، والآية وإن نزلت في الأخنس فهي تشمل كل منافق .