كان كلثوم بن الأغر قائدًا كبيرًا في جيش الخليفة عبد الملك بن مروان ، وقد اشتهر بالذكاء والحكمة وسرعة البديهة ، وكان الحجاج مشهورًا أيضًا بذكائه ودهائه وكان الحجاج يكن لكلثوم بن الأغر العداء الشديد وكان كلثوم يبادله نفس الشعور ، ووقع بينهما ذات يوم واقعة أثبتت ذكاء كلثوم وتفوقه على دهاء الحجاج ومكره .
ويحكى عن ذكاء الحجاج أنه كان قد قتل صبيًا وكانت أمه تدعو على الحجاج ليلًا ونهارًا ، وقد بلغ للحجاج خبرها فأمر جنوده أن يحضروها إليه وبالفعل أحضروها ولكن الحجاج لم يكن حاضرًا حينها ، فقام الجنود باستجوابها وسألوها : ما تقولين في الحجاج ؟ فقالت أشهد بالله أنه عادلٌ مقسطٌ .
فنظر إليها الجنود بتعجب فهذا عكس ما يقول الناس عنها ، فقالوا لها ادعي للحجاج ، فقالت المرأة اللهم ارفع قدمه واسكن روحه واستر عورته وغادرت ، ولما حضر الحجاج سأل عن تلك المرأة فأخبره الجنود أنها قالت أشهد الله أنه عادلٌ مقسطٌ ، فقال لهم لقد أساءت إلي : وذكر قول الله تعالى : {وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا } {سورة الجن ، الآية 15} .
ثم قال أيضًا قول الله تعالى :{ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ } { سورة الأنعام ، الآية 1} وأخبره الجنود أنها دعت له قائلة : اللهم ارفع قدمه وأسكن روحه ، فقال لهم لقد دعت علي بالموت فحينما قالت اللهم استر عورته كانت تقصد اللهم اجعله يموت ، وحينما قالت اللهم ارفع كعبه كان تقصد الشنق والصلب ، وكانت تلك القصة أحد الأمثلة على ذكاء الحجاج .
ولكن ذكاء كلثوم غلب ذكاء الحجاج ، فلقد دبر الحجاج مكيدة محكمة لكلثوم وأخبر بها الخليفة عبد الملك بن مروان ، حتى أن الخليفة لم يستمع لدفاع كلثوم ابن الأغر وقرر ضرب عنقه بالسيف ، وتم حبسه إلي أن ينفذ فيه الحكم وعندما علمت أم ( كلثوم ابن الأغر ) أن الحجاج هو من سينفذ حكم الإعدام بابنها .
وهي تعلم مدى العداء بينهما أدركت أن ابنها هالك لا محالة ، فذهبت أمه إلى الخليفة عبد الملك بن مروان وكانت تبلغ من العمر حينها أكثر من مائة عام ، وظلت تستعطفه وتستجديه بأن يصفح عن ابنها ، وبعد كل هذا لم يرضى الخليفة أن يردها خالية الوفاض .
وفي نفس الوقت كان يريد أن ينفذ الحكم فتجلى له حل ذكي ، وهو أن يكتب الحجاج يعدم في ورقة وأن يكتب في ورقة أخرى لا يعدم ، ويضع كل ورقة بيد ويختار كلثوم ابن الأغر إحدى الورقتين ، وإما أن ينجو أو يعدم ، وهنا كان القرار بين يدي الحجاج .
كن كلثومًا ولا تكن حجاجًا :
حينما علم كلثوم بن الأغر بأمر الخليفة أدرك أنه هالك لا محالة ، لأن الحجاج كان سيكتب يعدم في كلتا الورقتين لشدة كرهه له ، وحينما جاء يوم تنفيذ الحكم كتب الحجاج بالفعل في الورقتين (يعدم) ، وكان الحجاج حينها على يقين بمقتل كلثوم بن الأغر .
فلما حضر الخليفة عبد الملك ابن مروان وضع الحجاج الورقتين أمام كلثوم بن الأغر ، وطلب منه أن يختار إحدى الورقتين وهنا ابتسم كلثوم للحجاج ثم أخذ إحدى الورقتين ولم يقم بفتحها ولكنه قام ببلعها ، فتعجب الخليفة لما فعله كلثوم وقال له لما فعلت هذا وبلعت الورقة نحن لا نعلم ما كان بها ؟
فقال كلثوم يا مولاي لقد ابتلعت ورقة ونحن لا نعلم ما بها ، ولكن هناك ورقة أخرى مكتوب ما بها وبالتأكيد تلك الورقة تحوي على القرار المخالف للورقة التي بلعتها ، فلننظر ما كتب بها ، وهنا أخذ الخليفة الورقة الأخرى من الحجاج فوجد مكتوب بها (يعدم) ، فأعلن الخليفة أن كلثوم اختار ألا يعدم وابتلعها ، وغضب الحجاج غضبًا شديدًا لذكاء كلثوم بن الأغر ، فلقد استطاع بدهائه أن يدرك مكيدة الحجاج .
وبعد تلك الواقعة استطاع كلثوم بن الأغر أن يشرح للخليفة ما صنعه الحجاج ، وأن ما حدث كان مدبرًا من الحجاج وانتشرت حينها مقولة ( كن كلثومًا ولا تكن حجاجًا ) ، فالذكاء وسرعة البديهة نعمة عظيمة من الله عز وجل ينعم بها الله على بعض البشر ، ولكن المهم هو استخدامها في الخير لا في الشر .